للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شرح قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً)

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:١٨٨] وقوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلا رَشَدَاً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدَاً * إِلَّا بَلاغَاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:٢١ - ٢٣]]: هذا أمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق أن يقول هذا القول: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً} [الأعراف:١٨٨] {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ} [الجن:٢١].

(لا أملك لكم): لمن هذا الخطاب؟ للخلق عموماً، ومن هم: ذريته، حتى بناته، حتى عماته وزوجاته لا يملك لهم شيئاً، كما سيأتي أنه قال: (يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئاً) يقول هذا القول لسيدة نساء العالمين فاطمة رضي الله عنها؛ لأنه رسول مبلغ فقط، ليس له مع الله شيء من الملك والتصرف، فالجنة بيد الله، والنار بيد الله، والعبيد كلهم عبيد الله، إذا شاء أن يعذبهم عذبهم، وليس بين العباد وبين الله صلة إلَّا الطاعة، فمن كان مطيعاً لله فهو المقرب لديه، ومن كان عاصياً لله فهو المبعد المعذب، وإن كان ابن نبي، فنوح عليه السلام ما أغنى عن ابنه شيئاً، ولا أغنى عن زوجته شيئاً، ولوط كذلك لم يغن عن زوجته شيئاً، ولهذا ضرب الله جلَّ وعلا بهما المثل للكافرين، فقال: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئَاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:١٠]، وإن كانتا زوجتي نبيين.

أما قوله: ((فَخَانَتَاهُمَا)) فالخيانة: في الدين، خانتاهما في دعوتهما وفي دينهما، وليس خيانة الفراش، فما خانت زوجة نبي قط؛ لأن الله جلَّ وعلا كرم الأنبياء أن تخونهم أزواجهم في فرشهم، فخيانة زوجة لوط وزوجة نوح في دينهما ودعوتهما، فاتبعتا القوم الكافرين.

وكذلك المؤمن لا يضره قريبه، وإن كان من أفجر الناس، ولهذا ضرب الله جلَّ وعلا مثلاً فقال: {اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتَاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم:١١]، فهي وإن كانت زوجة أخبث الناس وأشر الناس فهي مقربة عند الله ومكرمة؛ لأنها أطاعت ربها وعبدته، وليس بين الخلق وبين ربهم جلَّ وعلا صلة إلَّا الطاعة فقط، واليهود أبناء أنبياء ومع ذلك لعنهم الله، وأقسم أنه سيبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، بكفرهم وعنادهم، وتعنتهم على أنبيائهم.

إذاً: فالإنسان إذا أطاع واتبع أمر الله كان قريباً إلى الله جلَّ وعلا؛ لأن الأصل أنهم كلهم عباد الله، فمن أبى العبادة استحق العقاب، ومن امتثل أمر ربه جلَّ وعلا وأطاعه استحق الثواب، هذا هو الأصل في الخلق كله، وإلَّا فالرب غني بذاته عن كل ما سواه، غني عن الخلق كلهم، لو كانوا كلهم على أفجر قلب رجل واحد ما ضر الله جلَّ وعلا ذلك شيئاً ولا نقص من ملكه شيء، كما جاء في الحديث القدسي الذي في صحيح مسلم، أن الله جلَّ وعلا يقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) وهذا خطاب للعباد كلهم من أولهم إلى آخرهم.

ويقول: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحد ما سأله، ما نقص ذلك مما عندي إلَّا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ثم رُفع) الإبرة إذا أدخلت البحر ثم رفعت ماذا تنقص البحر؟ لا شيء؛ لأنه إذا أراد الشيء قال له: (كن) فيكون، تعالى وتقدس.

والمقصود: أنه الغني عن الخلق كلهم، إن عبدوه وأطاعوا أمره واتبعوه، واجتنبوا نهيه فلأنفسهم، لا ينفعون الله، بل ينفعون أنفسهم، وإن عصوه وارتكبوا نهيه، وخالفوا أمره، فإنهم يضرون أنفسهم ولا يضرون الله شيئاً.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [فكفى بهذه الآيات برهاناً على بطلان دعوة غير الله كائناً من كان، فإن كان نبياً أو صالحاً فقد شرفه الله تعالى بإخلاص العبادة له، والرضى به رباً ومعبوداً، فكيف يجوز أن يُجعل العابد معبوداً، مع توجيه الخطاب إليه في النهي عن هذا الشرك؟ كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:٨٨]]: يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:٨٨] كل شيء -ما عدا ربنا جلَّ وعلا- داخل في هذا الهلاك حتى جبريل عليه السلام يموت ويهلك؛ لأنه عبد فقير إلى الله جلَّ وعلا، لا يملك شيئاً مع الله، والباقي هو الله جلَّ وعلا.

وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:٨٨]، ليس المراد أن الوجه هو المستثنى فقط؛ ولكن من المعلوم في لغة العرب أنه إذا ذكر أشرف الشيء فإن البقية تبع له.

إذاً: المعنى: كل شيء هالك إلَّا الله، وفي هذا إثبات الوجه لله جلَّ وعلا، صفةً حقيقة له على ما أراده الله جلَّ وعلا وبينه، وهذا كثير جداً في القرآن وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أبلغ ما جاء في هذا: ما جاء في الدعاء: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) فجاء أن أفضل نعيم أهل الجنة: أن ينظروا إلى وجه ربهم جلَّ وعلا، فينسون نعيم الجنة عند ذلك.

وجاء في صحيح مسلم في تفسير (الزيادة) في قوله الله جلَّ وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] أن الحسنى هي الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله جلَّ وعلا، وأنها أفضل من الجنة.

يعني: هي أعلى نعيم الجنة، ولهذا يقول جلَّ وعلا في وعد المتقين: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣] وضدهم: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:٢٤ - ٢٥].

ويقول في موضع آخر في هؤلاء المجرمين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥]، فجعل الحجاب عذاباً لهم، فدل على أن رفع الحجاب لرؤية الله جلَّ وعلا من أعلى أنواع النعيم، وهذا في الكتاب والسنة كثير، والذي ينكره يكون ضالاً في هذا الباب، قد ضل وترك النصوص الواضحة الظاهرة التي تدل على إثبات الوجه لله جلَّ وعلا صفةً له.