[رد الآية على الفرق الضالة]
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار].
الناس في هذا انقسموا إلى أقسام: قسم تصرف في أمر الله ودينه، فقال: يكفي الإنسان أن يصدق بقلبه ولو لم يعمل فلا يضره.
وهؤلاء يسمون المرجئة، وأصلهم الجهمية، ولهذا فسروا الإيمان بأنه المعرفة، معرفة القلب، وبهذا القول كفرهم العلماء، قالوا: لأن الإسلام جاء بنية وعمل وقول لا بد منه، فالله جل وعلا يقول: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:١٣٦]، وأمرنا بالقول، وهم يرون أن هذا ليس بلازم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، وأجمع العلماء على أن الإنسان لا يدخل الإسلام حتى يتشهد شهادة الحق (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فإن كان صادقاً من قلبه فهو المسلم ظاهراً وباطناً، وإن قال ذلك بلسانه فهو مسلم في الظاهر فقط، وأما في الباطن فهو في النار، وهؤلاء قالوا: إن الإيمان المعرفة.
فقيل لهم: إبليس يعرف ربه، فهل يكون مؤمناً؟! فإبليس يعرف الله، ويعرف الإيمان، ويعرف الكفر، فيلزمكم أن تقولوا بأنه مؤمن، ومعلوم أن هذا من أكبر الخطأ، ومن أبعد الأقوال عن الصواب.
وقابلهم فريق آخر فقالوا: الإيمان هو القول والعمل كله والنية التي يجب أن تكون مصاحبة للعمل، فلا بد أن يأتي بالأعمال كلها المأمور بها ولا يترك منها شيئاً، فإن ترك منها شيئاً فهو كافر.
وهؤلاء هم الخوارج الذين كفَّروا الناس بالمعاصي، وهم مقابلون لهذا الفريق.
وفريق آخر قريب منهم، إلا أنهم اختلفوا معهم في حكم الدنيا فقط، فقالوا: من ترك بعض الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فصار في منزلة بين المنزلتين.
وهذه خصيصة اختص بها المعتزلة من بين الناس، ولكن في الآخرة عندهم يتفقون مع إخوانهم الخوارج في ذلك، فقالوا: إذا كان يوم القيامة هذا الذي ترك بعض الواجبات وارتكب بعض المحرمات يكون خالداً في النار.
فإذاً الخلاف بينهما في التسمية، وفي حكم الدنيا فقط، أما في الآخرة فبينهما اتفاق.
والفريق الثالث -أو الرابع إذا جعلنا المعتزلة فريقاً ثالثاً- أهل الحق الذين توسطوا بين هؤلاء وهؤلاء، وقالوا: إن الإيمان يتفاوت بتفاوت فعل الناس، فالإنسان إذا أتى بالواجب عليه واجتنب المحرمات مع القول والنية فإنه يكون مؤمناً كامل الإيمان، وإن أخل بشيء من ذلك يكون مؤمناً ناقص الإيمان، على حسب كثرة ما أخل به أو كثرة ما ارتكبه من المحرمات، فلا يعطى الإيمان كله ولا يسلب الإيمان كله، بل يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
أو: إنه مؤمن عاصٍ.
أو: إنه مؤمن ناقص الإيمان.
ولا يكون بذلك كافراً، وهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن، وهم يقولون: هذا دليل على أنه كافر.
ولكن أهل السنة يقولون: لو كان كافراً ما أقام عليه الحد ولا صلى عليه ودفنه في مقابر المسلمين، فإذا كان محصناً فإنه يرجم ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين؛ لأنه يكون حكمه حكم المسلمين؛ لأن إقامة الحد عليه تطهيرٌ له من هذا الذنب، كذلك السارق، فلما قال: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) قطع يده وحكم بأنه مسلم من المسلمين، وكذلك شارب الخمر، وقد قال: (لا يشربها حين يشربها وهو مؤمن)، ومع ذلك لما قال رجل: لعنه الله؛ ما أكثر ما يؤتى به! نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (لا تعن عليه الشيطان)، وقال: (إنه يحب الله ورسوله)، مع أنه شارب للخمر، فدل على أن إيمانه نقص مجرد نقص، وأنه ما خرج من الدين، والله جل وعلا يقول في قاتل النفس: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:١٧٨]، ويقول جل وعلا في آية أخرى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:٩]، ويقول بعد ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:١٠]، فمع القتال ومع كونهم يتقاتلون سماهم إخوة، وسماهم مؤمنين، فدل على أن الإيمان لم يسلب منهم، ولكن بارتكابهم المعاصي نقص إيمانهم، فهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص، أما هذه الطوائف الثلاث فكلها ضالة، فالمكفرون والذين يتهاونون بالمعاصي ويقولون ليست بشيء، والإنسان إذا عرف بقلبه فهو مؤمن وإن ترك الصلاة والزكاة وغيرهم ضلال خالفوا كتاب الله وسنة رسوله من الجانبين، والحق هو الوسط بين الغالي والجافي.