[شبهة المشركين في عبادة غير الله أنهم اتخذوها وسائط وشفعاء عند الله]
قال الشارح رحمه الله: [وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله، لا على أنهم يكشفون الضر ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}[النحل:٥٣ - ٥٤]].
إذا مسهم الضر كان هذا شأنهم، فهم لا يلتفتون إلى آلهتهم التي يعبدونها، وهذا من الأمور التي فارق فيها المشركون الأوائل أهل الشرك المتأخرين، فإنهم إذا مسهم الضر ازداد شركهم ودعوتهم لغير الله جل وعلا، وهرعوا إلى القبور يدعونها، ويلجئون إليها، والأمر كما قلنا: لا عقل ولا دين عندهم، ذهبت عقولهم، وأديانهم، وجهلوا اللغة، وبعد ذلك جهلوا دينهم، فصار الشرك عندهم أعظم وأشد.
أما المشركون القدامى فإنهم إذا وقعوا في الشدة فإنهم يخلصون الدعاء لله وحده؛ لأنهم يعلمون يقيناً أنه لا ينجيهم من الشدائد ويكشف عنهم الضر إلا الله وحده:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[العنكبوت:٦٥] أي: إذا ركبوا البحر وهاجت بهم الرياح أخلصوا الدعوة لله وحده، وكفروا بآلهتهم، وإذا كان معهم شيء من أصنامهم ألقوها في البحر، وقالوا: إنها لا تنفع، ولا ينجيكم في مثل هذه المواطن إلا الإخلاص، ودعوة الله وحده، وهذا أمر معروف ومتقرر.
ذكر المؤرخون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة فاتحاً فر من فر من المشركين ومنهم عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، فقد كان مشركاً وكان يأبى أن يقبل الإسلام، ففر هارباً وترك مكة وأهله وزوجته، فوفق له أنه وجد أهل سفينة يريدون اليمن قرب جدة، فركب معهم فهاجت بهم الريح عند ذلك، فقال بعضهم لبعض: أخلصوا الدعاء لله، وألقوا ما معكم من الأصنام، فإنه لا ينجيكم في هذه الحالة إلا الإخلاص، ودعوة الله وحده، عند ذلك فكر في نفسه فقال: إذاً: إلى أين أهرب؟! لئن أنجاني الله جل وعلا من هذه الكربة لأذهبن إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأضع يدي في يده فليصنع بي ما شاء، وهذا سبب إسلامه.
والمقصود أن هذا أمر واضح، وقد ذكر الله جل وعلا عنهم في القرآن أنهم إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا لله جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا مستدلاً على وجوب توحيده وحده، وإلزامهم بذلك:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}[النمل:٦٢]، وكلهم يقرون بأنه الله وحده، لا اللات ولا هبل، ولا مناة ولا العزى، ولا غير ذلك من الآلهة التي كانوا يدعونها، بل يعترفون أنه الله جل وعلا وحده، وهذا لا يحتاج إلى استدلال عليه؛ لأنه أمر ظاهر جلي، وإنما احتيج إلى ذلك لما جهل الذين يدعون غير الله هذا الأمر، وصاروا يعتقدون أن الشرك هو أن يدعو الإنسان من يعتقد أنه يخلق ويرزق ويحيي ويميت، فيقول: إذا دعوت المقبور وأنت لا تعتقد أنه يخلق ويرزق ويحيي ويميت فليس في هذا شرك، هذا ما قاله أحد من خلق الله، وإنما قاله هؤلاء الذين خرجوا عن المعقولات بعد خروجهم عن المشروعات التي جاءت بها الرسل، وهو أمر واضح جلي جداً.
فالمقصود أن دعوة غير الله جل وعلا كلها من باب اتخاذ الوسائط والتبركات والشفاعة.
قال رحمه الله:[قلت: فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وأن ذلك شرك بالله، وفي الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله، والرغبة إليه من دون الله، والتوحيد ضد ذلك، وهو ألا يدعو إلا الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وكذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شيء لغير الله كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها كما تقدم].