قال الشارح رحمه الله: [ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذلك المتابعة، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في قول الله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[هود:٧] قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة.
وفي الحديث من الفوائد: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم، فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره].
قوله:(سادات الأولياء) يعني بهم الصحابة، فهم سادات وأولياء هذه الأمة على الإطلاق، لا يكون مثلهم في الأمة أحد، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:(خير الناس قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وكلمة (ثم) للترتيب: (ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) يعني: أنه يكثر فيهم الكذب، ويكثر فيهم التصنع، قال:(ويظهر فيهم السمن)؛ لأن الدنيا تكون همهم التي يركنون إليها ويميلون إليها.
ولما حصلت مشاجرة بين بعض الصحابة الذين تأخر إسلامهم وبين بعض السابقين قال صلى الله عليه وسلم:(لا تسبوا أصحابي، فوالله! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، فهذا الخطاب قيل للصحابة الذين أسلموا بعد الفتح أو قريباً منه، وقد أخبر الله جل وعلا أن الذين أسلموا قبل الفتح وأنفقوا وجاهدوا ليسوا كالذين أسلموا بعد الفتح وأنفقوا وجاهدوا، وأخبر أن كلاً وعد الله الحسنى، ولكن بعضهم أرفع من بعض.
والمقصود أن صحابة رسول صلى الله عليه وسلم هم أفضل الأمة بإجماع العلماء الذين هم أهل العلم، أما أهل البدع وأهل الجهل فإنه لا عبرة بخلافهم ولا ينظر إليهم، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الوقوع فيهم، وأخبر أن من أحبهم فإنه أحبهم لحبه، ومن أبغضهم فإن الذي دعاه إلى ذلك بغضه للرسول صلى الله عليه وسلم، والذي يقع فيهم كأنه واقع في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنهم هم الذين جاهدوا معه، وقاموا بامتثال أوامره، والدعوة إلى الله، والتنفيذ لما أمرهم به، ثم قاموا نقل أقواله وما أنزل عليه إلى الناس، فهم خير الناس وهم الأمناء، وهم الذين عدّلهم الله جل وعلا في كتابه، وأثنى عليهم.
فالذي يطعن فيهم فإنما يطعن في الإسلام نفسه، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس في أعراضهم فحسب؛ لأنهم هم الواسطة بين الأمة وبين رسولها صلوات الله وسلامه عليه في نقل الدين، فإذا قدح فيهم فقيل: إنهم مرتدون أو إنهم منافقون؛ أصبحت الأمة تعتمد في دينها على من لا يجوز الاعتماد عليه؛ فيكون دينها غير صحيح، بل يكون مبنياً على كذب وعلى زور وعلى عدم ثقة.
فتجب محبة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، والدعاء لهم والاستغفار؛ ولهذا يقول جل وعلا:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر:١٠]، وهؤلاء هم الذين يشهد لهم بالإيمان، أما من كان في قلوبهم غل للذين سبقوهم بالإيمان فليسوا من هذا الصنف، ويقول الله جل وعلا:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ}[التوبة:١٠٠]، فإذا كان الله جل وعلا يخبر بأنه رضي عنهم فهل يجوز أن يأتي دجال ويقول: هؤلاء مغضوب عليهم، هؤلاء منافقون، هؤلاء كفروا؟ وكيف كفروا بعد أن قال الله جل وعلا فيهم:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}؟ فالله علام الغيوب، إذا أخبر عن أحد من خلقه أنه مرضي عنه، فلا يمكن أنه يطرأ عليه كفر؛ لأنه يعلم كيف يكون تعالى الله وتقدس.