[حال الصحابة مع أهل الردة]
ثم بعد ذلك قام خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه فجاهد الذين ارتدوا حتى رجعوا للإسلام.
وقد كانت أسباب ردتهم مختلفة، فمنهم من منع الزكاة معللاً ذلك بأنه كالجزية التي تؤخذ من الكفار.
ومنهم من قال: أخرجها أنا لمن أريد ولا أدفعها إلى خليفة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم معللاً ذلك بأنه لو كان نبياً ما مات، وهؤلاء الذين لم يتمكن الإسلام من قلوبهم.
ولم يفرق الصحابة بين هؤلاء، بل قاتلوهم جميعاً، بل لما تردد بعضهم في قتالهم وقالوا: كيف نقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله) فقال لهم أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
والعقال حبل تعقل به الإبل، فلو منعوه وكانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، ثم كشف لهم عن وجه الحق والصواب فقال: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا بحقها)؟ يعني: بحق لا إله إلا الله وأن الزكاة من حقها، فأجمعوا على قتالهم، فقاتلوهم حتى استتب الأمر وعادت الجزيرة كلها إلى حظيرة الإسلام، ولم يقبض أبو بكر إلا وجزيرة العرب كلها مذعنة منقادة للإسلام وكانت خلافته قرابة سنتين وأشهر.
ثم بعد ذلك امتثلوا أمر ربهم الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الله جل وعلا بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:١٢٣] فبدءوا بقتال الكفار الذين يلونهم، وهم الفرس والروم، فبدأت الفتوحات في آخر عهد أبي بكر، ثم توفاه الله جل وعلا وقام بالأمر بعده إخوانه بقيادة خيرهم وأفضلهم عمر رضي الله عنه.
فهؤلاء هم الواسطة الذين بلغونا دين ربنا، الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين نقلوا إلينا القرآن، ومعاني القرآن، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله وأقواله بالتواتر.
والدين لم ينقله رجل واحد أو رجلان أو عشرة، فلو نقله رجل واحد لكان غير مأمون وغير موثوق به، وإنما نقله جميع الصحابة إلى من بعدهم، ثم الذين بعدهم نقلوه إلى من بعدهم، وهكذا إلى اليوم.
ولهذا لا يمكن أن يقول أحد: إن الصلوات المفروضة ست صلوات أو يقول: صلاة المغرب أربع ركعات وليست بثلاث، أو يقول: إنها ركعتان، أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا أمر نقل إلينا بالتواتر، ولم ينقله شخص واحد فيقال: ربما أنه أخطأ أو نسي أو وهم، بل نقلته أمة بأكملها، فهم الذين نقلوا إلينا ديننا، فالذي يطعن فيهم فهو إنما يطعن في الدين الإسلامي، والله جل وعلا أخبر أنه رضي عنهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنهم خير الناس.
فإذا كانوا خير الناس فمن المحال أن يكون أكثرهم أو جلهم ارتد عن الدين الإسلامي، أو أنه منافق كان يظهر خلاف ما يبطن، هذا من المحال.
ثم إن أفعالهم وقيامهم بالأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم تدل غاية الدلالة على أنهم خير الناس.
ولهذا نقول: يجب على المسلم أن يطلع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه؛ لأن هذا مما يثبت الدين ويقويه، ويزيل الشبه التي قد يلقيها بعض الأعداء.
قوله: (خير الناس قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم) كلمة (ثم) تدل على أن الذين أتوا بعدهم أقل منهم خيرية.
وكذلك القرن الذي يلي قرن الصحابة أقل من الذين قبلهم خيرية، وهكذا، ثم تنتهي الشهادة للقرون بالخيرية.
وفي هذا الحديث أن القرون أربعة، قرن الصحابة الذين فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وثلاثة بعده، ولكن أكثر الروايات الصحيحة الثابتة أنها ثلاثة قرون، والقرن الرابع لم يثبت لا في صحيح مسلم ولا في صحيح البخاري، ولهذا فالراجح أن الثلاثة قرون هي التي ثبتت، وهي قرن الصحابة، وقرنان بعده، ويشهد لهذا الواقع، فإن ظهور البدع وكثرة الخلافات والانحراف الجماعي لكثير من الناس، وغلبة الشر على الخير، حدثت بعد القرون المفضلة.
فالخير في القرون المفضلة أكثر من غيرها، وقرن الصحابة هو خير القرون المفضلة، والخيرية فيه لجميع الناس، ولا يزال الخير موجوداً فيمن بعدهم ولكنه قليل.