[العبد المخلص المقابل لعبد الدنيا]
ثم ذكر العبد الذي يكون مقابلاً لهذا, وهو الذي يكون عبداً لله جل وعلا, هذا عبد الدنيا والذي يقابله هو عبد الله, فقال: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله)، وطوبى: كلمة يراد بها الفعل الطيب أو الخير الذي يصل إليه, يعني: أنه يحصل على الجزاء الطيب المتناهي في الطيب، وقيل: إن (طوبى) هي الجنة، وقيل: إن (طوبى) شجرة في الجنة, وهذه أقوال متلازمة.
والمعنى واضح في أنه صلى الله عليه وسلم يدعو لهذا العبد الذي هذه صفته أن يكون من أهل الجنة أو أنه يخبر عنه بأنه من أهل الجنة.
والعنان معروف، وهو الحبل الذي يكون في رأس الفرس، يقوده به، وهو الزمام الذي يمسكه، ومعنى ذلك: أنه مجتهد في سبيل الله.
وقال: (أشعث رأسه، مغبرة قدماه)، والمقصود بذلك: أنه لا يعتني بنفسه، قد شغل عن ترجيل رأسه وتسريحه وتنظيفه, شغله الجهاد في سبيل الله عن ذلك.
وكذلك الغبرة التي تلحقه، فهي تعني أنه لا يعتني ببدنه بالتنظيف والغسل؛ لأنه مشغول عن ذلك، ويعمل عملاً يرى أنه لا يجوز التساهل فيه أو الغفلة عنه، فهو في أمر مهم؛ لأنه يطلب رضا الله جل وعلا، والوصول إلى أعلى الدرجات.
ثم قال: (إن كان في الحراسة كان في الحراسة) هذا الشرط اتحد مع الجواب، يعني: أنه إن كان في الحراسة قام بما يلزم ولم يكن مقصراًَ فيها, فهو في الاجتهاد والعمل غير مقصر، (وإن كان في الساقة كان في الساقة)، والحراسة والساقة كلاهما من أشد المواقف.
فذكر هذين الموقفين ليدل على أنه قائم بما يلزمه طاعةً لله جل وعلا، وطلباً لمرضاته, وأنه مجتهد غاية الاجتهاد لا يفتر ولا يقصر في ذلك.
ثم قال: (إن استأذن لم يؤذن له, وإن شفع لم يشفع)، يعني: أنه يعمل عملاً لله، ولا يقصد به وجوه الناس ولا يقصد به الدنيا, فلهذا يكون غير معروف عند ذوي المناصب والمسئولين, لأنه لا يظهر نفسه حتى يعرفوه, بل يعمل لربه جل وعلا, فلهذا إذا طلب شيئاً لا يعطاه، وإذا شفع لأحد لم تقبل شفاعته.
إن استأذن على الكبراء لم يؤذن له لأن عمله ليس للدنيا, فهو يحرص على أن يكون عمله خافياً, وألا يكون مطلوباً به وجوه الناس ورضاهم.
وإن شفع لأحد لم تقبل شفاعته؛ لأنه لا قيمة له عندهم, فهذا معناه أنه مغمور عند الناس, وليس له ذكر ولا نباهة عندهم ولا وجه, ولكنه عند ربه رفيع القدر وعظيم الجزاء؛ لأن قصده وجه الله جل وعلا؛ ولأنه عبد لله، فهذا يقابل الأول, فالأول عبد الدنيا وهذا عبد ربه جل وعلا.
وهذا مثلما يأتي في القرآن, فإن الله جل وعلا يذكر المتقابلين، يذكر مرة الصالحين ثم يتبعهم الفاسدين الكافرين، أو يذكر الجنة ثم يتبع ذلك ذكر النار.
فهنا في هذا الحديث ذكر عابد الدنيا، ثم ذكر عابد ربه الذي يقصد بعمله وجه الله جل وعلا، ويتقرب به إلى الله, والشاهد في هذا واضح, أنه سمى الذي يعمل للدنيا عبداً للدينار، وعبداً للدرهم، وعبداً للخميلة، وعبداً للخميصة.
فدل على أن من عمل عملاً يقصد به الدنيا, فإنه عند الله من الخاسرين, فالحديث مطابق للآية التي ترجم بها المؤلف الباب، وهي قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٥ - ١٦]، فمعلوم أن الأول باطل عمله في الآخرة، وأنه ممن يستحق النار، ويكون خالداً فيها؛ لأنه عبدٌ للدنيا ويعمل لأجلها, ولهذا يرضى لها ويسخط من أجلها.
أما الثاني: فهو يقابل هذا تماماً, فالدنيا ما أهمته، ولا يلتفت إليها، ولا يعيرها أي اهتمام, ولهذا كان عمله عظيماً, إذا وقف في المواقف وقف موقف الرجال, ولم يؤت من قبله, ولكنه لا يظهر ذلك بل يخفيه؛ لأنه يريد وجه الله جل وعلا, ولهذا لا يتحصل له جاه عند الناس, بل يكون مطموراً مغموراً، لا يؤتى به ولا يلتفت إليه؛ لأن عمله لله جل وعلا، وهذا هو المقصود.