للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير آيات الشفاعة]

قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيات].

الآيات في الشفاعة كثيرة، لكن المقصود: الآيات التي ذكرها، وإلَّا فالآيات في الشفاعة كثيرة جداً، وتفسيرها -والحمد لله- واضح.

فإن الآية الأولى التي ذكرها: قوله جلَّ وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:٤٤] وتفسيرها يتبين بذكر الآية التي قبلها؛ لأن الآية التي قبلها يذكر الله جلَّ وعلا فيها: أن المشركين اتخذوا شفعاء؛ وزعموا أن شفاعتهم تقع ولو لم يأذن الله جلَّ وعلا، فأبطل الله جلَّ وعلا ذلك فقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:٤٣] يعني: كيف يشفعون وهم لا يملكون شيئاً؟! و (شيء) هنا: دخل فيها الشفاعة وغيرها، ومع ذلك لا يعقلون؛ لأنهم جماد ما بين شجر أو حصى: إما حصى كاللات، أو شجر كالعُزَّى وما أشبه ذلك، أو أصنام مثل كونهم يبنون الصنم بأيديهم ثم يزعمون أنه يشفع لهم! ثم قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:٤٤] فقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ} [الزمر:٤٤] يدل على أن الشفاعة كلها ملك لله، ثم أكد ذلك بقوله: {جَمِيعَاً} فدل على أنه لا أحد يملك الشفاعة من دون الله جلَّ وعلا، فالشفاعة لله، وإذا أراد جلَّ وعلا أن يكرم أحداً من عباده أذن له بالشفاعة، ولكن فيمن يحدُّهم له، يقول: (هؤلاء اشفع فيهم)، وليست الشفاعة إلى الشافع.

وكذلك الآية التي ذكرها بعدها وهي قوله جلَّ وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥] تبين أن الشفاعة لا تقع عند الله جلَّ وعلا إلَّا إذا أذن، وهذا أيضاً مثل قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:٤٤] فهو لا يأذن إلَّا لمن رضي عنه، ولا يمكن للشافع أن يشفع إلَّا إذا أذن له، والإذن هو: الأمر بأن يشفع، فأصبح الأمر كله الله.

وكذلك الآية الثالثة وهي قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٢ - ٢٣] فيتبين بها أن الأمر كله لله جلَّ وعلا، وأن هؤلاء الذين يُزعم أنهم يشفعون لا يملكون مثقال ذرة لا في السماء ولا في الأرض، لا يشتركون في ملك المالك، وليس له منهم مساعد أو مظاهر أو معاون تعالى وتقدس، فالأمر كله لله جلَّ وعلا.

فيتبين بذلك أن الذي يدعو شافعاً ويطلب منه أن يشفع له ولو لم يأذن الله له أنه مشرك؛ لأنه جعل ما لله لغيره، ولهذا قال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٣].

فتبين من هذه الآيات أن الشفاعة قسمان: القسم الأول: شفاعة منتفية وهي: التي يطلبها الطالب بدون إذن الله، وسواءً كان الذي تُطلب منه الشفاعة نبياً أو ملَكاً أو ولياً أو غير ذلك، فهذه منتفية، وهي الشفاعة التي زعمها الكفار في شركهم؛ لأن شركهم كله في الشفاعة، فالذين عبدوهم -يعني: دعَوهم- زعموا أنهم يشفعون لهم فقط، فما كان أحد منهم يقول: إن الأصنام أو غيرها ممن يُدعى من دون الله يملك مع الله شيئاً، وإنما يطلبون منها الشفاعة فقط، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] وتبين بهذا أن طلب الشفاعة من غير الله رأساً شرك، كأن يأتي الإنسان إلى شخص ميت أو قبر أو غيره فيقول: يا فلان! اشفع لي، فهذا هو شرك المشركين.

القسم الثاني: الشفاعة المثبتة وهي: التي تقع بأمر الله ولمن رضي الله عنه، قال الله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨]، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥]، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨].