للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة في عدم إسلام أبي طالب]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبين لعباده أن ذلك إليه، وهو القادر عليه دون من سواه، فلو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم -الذي هو أفضل خلقه- من هداية القلوب وتفريج الكروب ومغفرة الذنوب والنجاة من العذاب ونحو ذلك شيء؛ لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به: عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه، فسبحان من بهرت حكمته العقول، وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده وإخلاص العمل له وتجريده!].

يعني: أن من الحكم التي تظهر للناظر في كون أبي طالب لم يسلم، ما بينه بقوله: (يدل ذلك على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بيده شيء من أمر الله؛ من هداية القلوب وإيصال الهدى إليها) هذا ليس إليه، وإنما هذا لله جلَّ وعلا، مع أنه أقرب الناس إلى الله، وهو رسوله الذي أكرمه الله جلَّ وعلا بالرسالة، ويجيب دعوته إذا شاء كثيراً، ومع ذلك ما استطاع هداية عمه الذي كان يحوطه ويحميه، مما يدل دلالة واضحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له مع الله شيء، وإنما الأمر كله بيد الله، فالله هو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء.

وقد تقدم أن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية دلالة وإرشاد: وهذه هي التي أُثبتت للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:٥٣] يعني: أنه يدل ويبين ويوضح؛ لأن عليه مجرد تبيين الأدلة، وإيضاح الحق من الباطل.

وهداية توفيق: فهداية التوفيق هي: أن تُخلَق الهداية في القلوب، وأن يُحبَّب الإيمان إلى القلب ويُكرَّه إليه ضده، فهذا إلى الله، وليس لأحد منه شيء، لا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وهذا هو المقصود في قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦] يعني: لا تستطيع أن تجعل الإيمان في قلب من تشاء ومن تحب، وإنما هذا إلى الله جلَّ وعلا.

ويجوز أن يكون هناك حكم غير هذه في كون أبي طالب لم يؤمن، ومن سنة الله جلَّ وعلا أنه إذا بعث رسولاً في أمة يبعثه في أشرافها، وتكون قبيلته قوية، ولابد أن يوجد فيهم متعصب له ليمنعه من أذى الآخَرين، كما قال الله جلَّ وعلا في قصة شعيب أن قومه قالوا: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:٩١] (رَهْطُكَ) يعني: جماعتك، ورهطه لم يؤمنوا به ولو كانوا من قبيلته، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّه} [هود:٩٢] ومع ذلك كل رسول يتحدى قومه بأن يقتلوا أو يفعلوا به ما يشاءون فلم يستطيعوا، حتى رسولنا صلى الله عليه وسلم أمره الله جلَّ وعلا بذلك، قال له: {ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:١٩٥ - ١٩٦] هكذا قال الله جلَّ وعلا له، وكان يقول لهم ذلك فما استطاعوا، ولهذا في آخر الأمر لما مات أبو طالب اتفقوا على أنهم يقتلونه واستعدوا لذلك، وأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش رجلاً شاباً جَلْداً وأعطوه سيفاً، زاعمين أنهم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل؛ فترضى بنو هاشم بطلب الدية فقط؛ لأنها لن تستطيع أن تقتل من كل قبيلة من فعل ذلك منهم، فاتفقوا على أن يقتلوه، فأحاطوا بيته ومعهم سلاحهم وجلسوا عليه، فخرج من بينهم وهم ينظرون ولكن لا يبصرونه، خرج وصار يأخذ التراب من الأرض ويذره على رءوسهم ويقرأ قول الله جلَّ وعلا: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:٩] وذهب وتركهم، وقد أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام على فراشه، وقال له: (لا تخف؛ لن يصل إليك أذىً) وكانوا ينظرون إليه ويتصورون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج إليهم قالوا: أين محمد؟ قال: خرج من بينكم وقد وضع على رءوسكم التراب، فانظروا إليه فوق رءوسكم، فلمسوه بأيديهم فرأوا تراباً موضوعاً على رءوسهم.

فالخلق ليسوا شيئاً بالنسبة لله جلَّ وعلا، فأعمى أبصارهم كما أعمى قلوبهم، ومنعهم من الوصول إليه بأي طريق شاء، تعالى الله وتقدس.

وكذلك قال هود لما قال له قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:٥٤] يعني: يقولون: إن بعض أصنامنا أصابك بجنون، فصرتَ مجنوناً؛ لأنك صرت تنهانا عن عبادتها، فقال لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعَاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:٥٤ - ٥٦]، فتحداهم وقال: أجمِعوا أمركم أنتم ومعبوداتكم، واجتمعوا على كيدي بما تستطيعون، ولا تُنظروني ساعةً، أي: لا تمهلوني، فما استطاعوا، وهو وحده، وهم أمة قوية جبابرة كما هو معلوم، ومع ذلك لم يستطيعوا له.

وكذلك نوح عليه السلام، وكذلك الرسل كلها.

ولكن الله جلَّ وعلا يُجري غالب الأمور على الأمر المعتاد عند الناس؛ لأنها سنن وأسباب وضعها لخلقه.

فبعث الرسول في قوة من قومه، ولذلك تعصب له أبو طالب، والعصبية تفيد في بعض الأحيان، وليست مذمومة مطلقاً، بل هي تفيد في بعض الأمور، وكون الإنسان يتعصب للحق، ويتعصب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدينه؛ أمر مطلوب، ولكن لا يجعله ذلك يتعدى الحق إلى الباطل.

والذي ذُكر من الرسل أنه لم يكن له قبيلة قوية تدافع عنه هو: لوط عليه السلام؛ ولهذا قال لقومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:٨٠] وقصده بالركن: القبيلة القوية التي تمنعه وتحميه؛ ولهذا جاء في الحديث: (أن الله جلَّ وعلا ما أرسل بعد لوط نبياً إلَّا في منعة من قومه)، وجاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد) لأنه يأوي إلى الله جلَّ وعلا؛ ولكن هو ما أراد هذا، إنما أراد أنه يدافعهم -لما أرادوا السوء بأضيافه- مدافعةً على ما جرت به السنن، وما جرت به العادة؛ لقوته وقوة من يكون معه، أما كونه يعلم أن الله سينصره فهذا ثابت عنده لا مرية فيه، وهو ما علم أن أضيافه ملائكة؛ لأنهم جاءوا إليه بصورة شباب حسان الوجوه، وقد فُتن قومه -نسأل الله العافية! - بإتيان الذكران وترك النساء، وهم أول من فعل هذه الجريمة، فمن تمام البلية أن الملائكة جاءوا إلى لوط بصورة شباب حسان الوجوه، فجاءوا يهرعون إليه، فدافعهم بكل ما يستطيع، حتى عرض بناته أن يزوجهم إياهن؛ ولكن هم لا يريدون إلَّا الفساد فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:٧٩] فقال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:٨٠] عند ذلك قال له جبريل: لا تخف؛ نحن رسل الله {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:٨١] ثم طمس أعينهم بجناحه، فعميت أبصارهم، ثم قال للوط: إن هؤلاء قد قرب أمر الله فيهم، والعذاب آتٍ إليهم، فقال له لوط: الآن أرني فيهم عذاب الله وأنا أنظر؛ لأنهم أوصلوه واضطروه إلى أقصى غاية لا يستطيع أن يصبر فيها، فقال له: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:٨١] أي: الصبح قريب؛ لأنهم كانوا في أول الليل.

فالمقصود: أن قيام أبي طالب بالذود عن النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته هذه سنة من السنن التي جرت عادة الله عليها في الرسل السابقين، ومن تمام ذلك أن هؤلاء الذين يذودون عن الرسل يكونون على دين أقوامهم؛ لأنه لو كانوا على دينه لقال أعداؤه: قومه يحمونه لأجل أنهم على دينه، ولا يتأملون ما جاء به، ولا تقوم الحجة عليهم كاملة، فقد تمنعهم العصبية واتباع الهوى من النظر في الأدلة التي يأتي بها، ولله حِكَم في هذا، ومن تأملها وجد الشيء الذي يهديه الله جلَّ وعلا إليه.