للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه جل وعلا]

قال الشارح رحمه الله: [فانظر إلى هذا الجهل العظيم؛ حيث اعتقد أنه لا نجاة له إلا بعياذه ولياذه بغير الله، وانظر إلى هذا الإطراء العظيم الذي تجاوز الحد في الإطراء الذي نهى صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله)، رواه مالك وغيره.

وقد قال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:٥٠]].

هو عبد، والعبد هو العابد.

هذا هو العبد الممدوح الذي يعبد ربه، وقد أثنى الله جل وعلا عليه بلفظ العبودية في أشرف المقامات؛ لأن أشرف مقام الإنسان أن يحقق عبادة ربه؛ قال جل وعلا: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:١]، وأثنى عليه جل وعلا في مقام الدعوة فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:١٩]، وأثنى عليه جل وعلا في مقام الإسراء فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:١]، وأثنى عليه جل وعلا في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة:٢٣].

هذه المقامات الأربع هي أشرف مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فذكره الله جل وعلا فيها بلفظ العبودية؛ وذلك أنه ليس شريكاً لله جل وعلا في الإلهية، أو الربوبية، أو له شيء من الإلهية، بل هو عبد يتأله ربه، وكان يصيبه ما يصيبه فيلجأ إلى ربه جل وعلا، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة كان يمد يديه إلى ربه مفتقراً إليه يسأله متضرعاً خاشعاً، وهو أعلم خلق الله جل وعلا.

ومع ذلك قد يصيبه الكفار بالأذى، كما جرحوا وجهه صلوات الله وسلامه عليه يوم أحد، وكسروا ثنيته فصار الدم يسيل على وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم)، وهو يدعوهم إلى الله جل وعلا، فينزل الله جل وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران:١٢٨] يعني: أنك عبدي فامتثل أمري، وامض في الدعوة التي كلفتك بها، أما هؤلاء فهم عبادي إن شئت عذبتهم، وإن شئت عفوت عنهم؛ فهو ليس له من الأمر شيء صلوات الله وسلامه عليه.

أما دعوى الأفاكين المبطلين فهي مخالفة لكتاب الله جل وعلا، ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدعوته، ولنهج السلف الذين عرفوا الحق، وميزوا بين الحق والباطل، لكن الشيطان يأتي إلى الإنسان في صورة تعظيم الرسول صلى لله عليه وسلم فيزين له الشرك، ويجعل هذا الشرك من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجعل له ما هو من خصائص الله جل وعلا حتى يخرج به من الدين الإسلامي إلى الكفر، والله أعلم.

ثم هذا الكلام وهذه الأبيات للبوصيري صاحب البردة نقول: هذه الأبيات شرك صراح، ولكن الرجل لا يجوز أن نحكم عليه بأنه مشرك؛ لأننا لا ندري ما الذي مات عليه، فربما هداه الله وتبرأ من ذلك وتاب منه، أما إذا علم أنه مات على هذه العقيدة فهو مشرك، ولكن هذا لا يعلم؛ فالحكم على الكلام ليس على الشخص، أما الشخص فأمره إلى الله، فلربما أنه تاب، وعرف الحق ورجع عن الباطل.

قال الشارح رحمه الله: [فانظر إلى هذه المعارضة العظيمة للكتاب والسنة، والمحادة لله ورسوله.

وهذا الذي يقوله هذا الشاعر هو الذي في نفوس كثير، خصوصاً ممن يدعون العلم والمعرفة، ورأوا قراءة هذه المنظومة ونحوها لذلك، وتعظيمها من القربات، فإنا لله وإنا إليه راجعون].

ولا يزال هذا الأمر له من ينميه، ومن ينشره بين الناس، ويدعو إليه، ويروون في هذا حكايات باطلة، أو منامات قد يريهم إياها الشيطان ليضلهم بها، أو أحاديث مكذوبة لا أصل لها، أو دعاوي هي تلبيس للحق بالباطل، وليس لهم دليل على هذه الأمور أبداً، وأدلتهم لا تخرج عن كونها مرائي يريهم إياها الشيطان، أو حكايات تحكى عن بعض الناس قد يكون لها أصل، وأصلها الشيطان، وقد لا يكون لها أصل وإنما هي مكذوبة؛ لأن الحكايات لا يجوز أن يعتمد عليها إلا ما كان من كتاب ربنا وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، أو أحاديث مكذوبة يريدون أن يجعلوا الحق يدل على الباطل فيها؛ هذه هي أدلتهم لا تخرج عن ذلك.