[فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله]
قال المصنف رحمه الله تعالى: وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:١٠]].
هذه الآية يخبر الله جل وعلا فيها: أن الناس إذا جاءهم رسول انقسموا إلى قسمين: قسم يقول: آمنا، وقسم يقول: كفرنا، والذي يقول: كفرنا ليس بمعجز لله جل وعلا، بل سوف يأخذه ويعذبه، وهو هين عند الله لا يساوي شيئاً، والذين قالوا: آمنا، لابد من ابتلائهم واختبارهم، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:٢]، والفتنة المقصود بها هنا: الاختبار والامتحان، والاختبار يكون بالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بمعاداة أكثر الناس وله؛ القريب منهم والبعيد، ومثل هذا يكون صعباً على النفوس.
وهذا هو الامتحان والابتلاء، فمن الناس من يصبر ويتحمل الأذى في هذا السبيل ولا يبالي، يؤذونه ويعيرونه ويتخذون معه كل طرق الصد، فيزداد بذلك قوة وإيماناً وعزة ويقيناً، ومنهم من ينتكس ويجعل أذية الناس وعذابهم كعذاب الله، ويستعجل العافية ويقول: ما لي ولمعاداة الناس، وتحمل عذابهم، ومقابلتهم بالقتال وبالأمر والنهي، آمرهم وأنهاهم وهم يتسلطون علي بالأذى وبالمحاربة وبغير ذلك، فينتكس، فيكون مستعجلاً للعذاب العاجل ومستأجلاً للعذاب الآجل.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن صفات قوم من المكذبين الذين يدعون الإيمان بألسنتهم ولم يثبت في قلوبهم: إنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم؛ فارتدوا عن الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يعني: فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقول ذلك بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا؛ فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه.
فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه، وابتلي بما يؤلمه، ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم، فلابد من حصول الألم لكل نفس آمنت، أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير في الألم الدائم، والإنسان لابد أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات؛ فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقىً حلَّ بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلابد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم.
فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لـ معاوية رضي الله عنه: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً)؛ فمن هداه الله وألهمه رشده، ووقاه شر نفسه، امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم.
ثم أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة: أنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له، وهي أذاهم ونيلهم إياه بالمكروه، وهو الألم الذي لابد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذلك -في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به- كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان.
فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب، وهذا لضعف بصيرته، فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة عذاب الله، وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق.
انتهى].