للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح قوله: (والذين يدعون من دونه لا يملكون من قطمير)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:١٣ - ١٤]]: هذه الآية أيضاً مما يبطل الشرك عموماً، ويبين أن المدعو لا يملك لداعيه شيئاً: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:١٣] القطمير: هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة، إذا يبست ظهرت رقيقة، ولا نفع ولا قيمة لها، وإذا كانوا لا يملكون هذا الشيء فكيف يُدعَون؟! وهذا عام لكل مدعو: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:١٣].

كل مدعو من دون الله لا يملك هذا المقدار، وهذا في كل مدعو سواء كان جماداً أو كان عاقلاً؛ لأنه إذا كان عاقلاً: فهو إما شقي كافر شيطان، وإما تقي يعبد الله، ويتبرأ من أن يكون له شيء من حق الله، فيصبح معادياً لهذا الذي يدعوه؛ لأنه خالف ربه ودينه، فهو يكتسب العداوة وإن زعم أنه يحبه، وإما جماداً لا حول له ولا قوة، وقد جاء الشيطان لكثير من الناس بالباطل في قالب الحق، فجعل دعوة غير الله جلَّ وعلا من الأولياء والأنبياء في قالب المحبة، وقال: هذا دليل حبهم وموالاتهم! فجعل دعوتهم والتضرع إليهم وإنزال الفقر بهم، وطلب الحاجات منهم محبةً لهم وتعظيماً.

ومن تلبيس الشيطان أيضاً أن جعل الذي ينهى عن هذا الشرك، ويأمر بأن تكون العبادة كلها لله، مبغضاً للرسول ومبغضاً للأولياء، فحمل أتباعه على أن يشنعوا على من أنكر عليهم، وهذا من تزيين الشيطان وقلبه للحقائق، فاتبعوا الشيطان على ذلك، وليس لهم على هذا من دليل، مع أن هؤلاء الذين يتجهون إليهم -إن كانوا أولياء- لو خرجوا عليهم لقاتلوهم؛ لأنهم خالفوا دينهم وخالفوا أمر ربهم، فلا يمكن أن يقرونهم عليه، ولهذا أخبر الله جلَّ وعلا يوم القيامة أنهم يتبرءون منهم، وفي هذه الآية يخبر الله أن المدعو -كل مدعو من دون الله- لا يملك لداعيه قطميراً، ومعنى هذا أنه لا يملك شيئاً، كما سبق في الآية الأولى: (لا يملك شيئاً)، ثم بين تعالى وتقدس أن المدعو يجب أن تتوافر فيه أمور: أولاً: الملك.

والثاني: السماع.

والثالث: استطاعة الإيجاد.

وهؤلاء المدعوون من دون الله ليس معهم من الأمور الثلاثة شيئاً حتى السماع لا يسمعون، والمراد بالسماع هنا: ليس مطلق السماع -سماع الصوت- إنما المراد به السماع الذي يكون به النفع، أما مجرد السماع فإنه قد يكون لا نفع فيه، وقد استدل بهذه الآية وبغيرها من الآيات بعض الناس على أن الموتى لا يسمعون شيئاً، والواقع أن الآية لا تدل على هذا، وإنما تدل على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللعلماء في تفسير قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:٨٠] قولان، ولا يعرف في تفسيرها إلَّا هذان القولان: أحدهما: أنه على ظاهره، {لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:٨٠] سماع امتثال، أي: لا يستطيعون أن يستجيبوا لك.

والثاني: أن المقصود بالسماع هنا: السماع الذي ينتفعون به.

إذاً: الأول: أنك لا تُسمعهم مطلقاً؛ لأنهم مرتهنون وميتون ولا يسمعون.

الثاني: أنك لا تُسمعهم السماع الذي يكون فيه الامتثال والانتفاع، ولهذا قال: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:٨٠] والأصم إذا كان مقبلاً لا تستطيع أن تسمعه الدعاء، تدعوه فلا يسمع منك فكيف إذا أدبر؟! وهذا مثل ضربه الله جلَّ وعلا للكفار، فإنهم لا يستطيعون أن يسمعوا السماع الذي ينتفعون به، وإلَّا فهم يسمعون قول الرسول صلى الله عليه وسلم ويرونه؛ ولكنهم لا يسمعونه السماع الذي ينتفعون به، ولهذا أخبر عنهم أنهم صم عمي بكم، مع أنهم يسمعون قوله ويردون عليه، ويقولون: هذه أساطير الأولين هذا سحر وكهانة وتَقَوَّله.

يعني: كذب أتى به، والمقصود أن السماع المنفي هو سماع الانتفاع.

أما الأحاديث الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنها: حديث أنس الذي في الصحيحين عن أبي طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر أمر بأربعة وعشرين من صناديد قريش، فسُحبوا وألقوا في بئر من آبار بدر، ثم أمر براحلته فركبها، فاتبعه أصحابه، وقالوا: يذهب لحاجة، فوقف عليهم وقام يناديهم: (يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما تنادي من قوم قد جيَّفوا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون الإجابة)، وكذلك في الصحيح عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه ذكر مثل هذا.

وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دفن العبد في قبره، وولى عنه أصحابه، وهو يسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيجلسانه فيسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرسول الذي بعث فيكم؟) فأخبر أنه يسمع قرع نعالهم.

أما ما جاء أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت حديث ابن عمر قالت: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنهم يعلمون ما أقول) هكذا قالت، فهذا رأي قالته، ولا يجوز أن يُترك نص الرسول صلى الله عليه وسلم لرأيها وقولها؛ لأنه واضح وجلي، وقد روي أنها رجعت عن ذلك لما ثبت عندها، كما رواه الإمام أحمد رحمة الله عليه.

والذي يدعي الخصوصية ليس عنده دليل على ذلك؛ لأن هذا شيء قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل بعده: إن هذا خاص بهؤلاء القوم، أو إنه في تلك الساعة فقط، بل جاءت أحاديث مطلقة في أن الميت يسمع قول من يزوره ومن يتكلم عنده؛ لكنه لا يستطيع رد الجواب، وقد يكون في سماعه ما يحزنه، ولا يستطيع أن يملك شيئاً لمن يدعوه؛ لأنه مرتهن بعمله، وإنما يسمع؛ لأنه حي، ولكن حياة غير الحياة المعهودة لنا حياة برزخية؛ لأن روح الميت لا تموت ولها اتصال ببدنه، ولا تفارق البدن مفارقةً كاملة، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة في أن القبر فيه نعيم وفيه عذاب، وليس النعيم والعذاب على البدن فقط، ولا على الروح فقط، بل عليهما جميعاً، والأحاديث في هذا كثيرة جداً، ولا يجوز أن ترد النصوص بحجة أن فيها متعلق للمخرفين الذين يتجهون إلى عبادة القبور.

فمثل هؤلاء يُبيَّن لهم الحق ويوضَّح، ويقال لهم: إن هؤلاء لو كانوا أحياءً -وهم في حال الحياة أكمل من حال موتهم- ما أغنوا عنكم شيئاً، فكيف بعد موتهم؟! بل لا يستطيعون ان يقدموا لأنفسهم حسنة واحدة أو يحطوا عن سيئاتهم، فكيف بغيرهم؟! والمقصود: أنه لو تعلق أهل الباطل بشيء مما هو حق، فليبين لهم الفهم الصحيح والحق، وأنه لا تعلق لهم بما استدلوا به.

ومثال ذلك ما يقول النصارى: من أن القرآن فيه ما يدل على التثليث في نحو: (نحن)، و (أنا) مما بدل على خطاب الجماعة، فهل نقول: علينا أن نترك هذه النصوص؛ لأن فيها متعلق للنصارى!! وكذلك غيرهم من أهل الباطل، يتعلقون بشبهات قد تنطلي على بعض الجهلة؛ ولكنها -في الحق- إذا أُرجعت إلى المحكم زال الاشتباه نهائياً، والاشتباه الواقع لهم ليس عند أهل الحق.

وقوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:١٤] يعني: لو قدر -وهذا على سبيل التقدير- أنهم يسمعون قولكم سماع قبول فلا يستطيعون الاستجابة، يعني: لا يستطيعون أن يجيبوكم إلى ما تطلبونه منهم، ولو سمعوا سماع الاستجابة لكم، ما استطاعوا أن يملكوا لكم نصراً ولا نفعاً، ومثله ما سبق من أنهم لا يملكون شيئاً لعابديهم.

والآيات كلها يبين بعضها بعضاً، وكلها تدل على معنى واحد.

وقوله: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:١٤]، يقول قتادة: يعني نفسه جلَّ وعلا، وأنه خبير بالأمور كلها، ولا ينبئك منبئ مثل تنبيء الله جلَّ وعلا وإخباره، فهو الحق الذي لا يأتيه الباطل، فيجب أن يُقطَع ويؤمَن به.