النوع الثاني -وإن شئت قلت: النوع الثالث- توحيد الإلهية وهذا الذي صارت فيه الخصومة بين الرسل وأممهم؛ لأنه هو الذي أنكر، وهو الذي دخله الشرك؛ لأن أكثر الخلق اتخذوا وسائط وشفعاء يجعلونهم وسائط بينهم وبين ربهم، ويدعون هذه الوسائط لتقربهم إلى الله زلفى لتشفع لهم، ولا يوجد أحد من الخلق زعم أن صنماً من الأصنام أو معبوداً من المعبودات له شركة في خلق السموات والأرض والجبال والأشجار، أو له قدرة على الإحياء والإماتة، لا يوجد أحد اعتقد هذا أبداً، وإنما زعموا أنهم عباد مقربون، أو أنهم لا ذنوب لهم، وأنهم إذا دعوا الله استجاب لهم، واتخاذهم وسائط أقرب إلى الإجابة وأقرب إلى الطلب من دعاء الله جل وعلا، وأصل هذا بني على تشبيه الرب بالمخلوقين، وليس التشبيه الذي يقوله المتكلمون.
والتشبيه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق وهذا كثر جداً في الأمم السابقة، ولا يزال إلى الآن كثيراً في الخلق، فيجعلون المخلوق هو الأصل والخالق فرعاً تعالى وتقدس، فوجه التشبيه هنا أنهم رءوا أن الملوك والكبراء والعظماء لا يطلبهم الإنسان حاجته منهم رأساً، فلابد أن يذهب إلى محبيهم وإلى وزرائهم وإلى المقربين لديهم ويسألهم أن يتوسطوا له عند الرئيس والملك حتى تقضى حاجته، ووجدوا هذا أنجع وأسرع في قضاء الحاجة، بخلاف ما إذا ذهب ودخل عليهم بنفسه أو طلب منهم بنفسه فإنه ربما لا يلتفت إليه، فقاسوا رب العالمين الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء رقيب وشاهد يسمع ولا يخفى عليه شيء قاسوه على المخلوقين، تعالى الله وتقدس، هذا هو أصل الشرك الذي حدث للأمم في هذا الباب.
فاتخذوا الوسائط حسب اختلاف نزعاتهم واتجاهاتهم، فمنهم من يتخذ ملكاً من الملائكة إن كانوا ممن يؤمن بالملائكة، ومنهم من يتخذ جنياً، ومنهم من يتخذ نبياً، ومنهم من يتخذ رجلاً صالحاً، ومنهم من يتخذ شجرة أو حجراً أو غير ذلك، وكلها أصلها هذا، وكل رسول كان يأمر قومه أن يخلصوا الدعوة لله فقط، وألا يدعوا معه أحداً، ولا يكون هناك وسائط:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه}[الأعراف:٥٩] هكذا كل رسول يقول هذه المقالة لأمته: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، والإله هو الذي يألهه القلب بالدعاء والخضوع والذل، فيدعوه ويذل له ويعظمه، فهذا يوجب أن يكون الدعاء لرب العالمين فقط، ولا يجوز أن يكون لأحد من الخلق، سواء أكان عاقلاً أم غير عاقل، حاضراً أم غائباً، فمن جعل لمخلوق من المخلوقات شيئاً من ذلك فقد وقع في الشرك الأكبر الذي كانت الرسل تحذر منه وتدعوا قومها إلى الابتعاد عنه وتركه.
القسم الثاني من أقسام التشبيه: تشبيه أوصاف الرب جل وعلا بأوصاف المخلوقين، كأن يقول مثلاً: يد الله كأيدينا، وسمعه كأسماعنا، وبصره كأبصارنا، وكلامه ككلامنا، تعالى وتقدس، وهذا هو الذي يتكلم به المتكلمون، ويجعله العلماء كفراً يخرج الإنسان من الدين الإسلامي، وهو الذي كثرت فيه المؤلفات التي ألفت في هذا الباب، والأصل في هذا قوله جل وعلا:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:١١]، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:٤]، وما أشبه ذلك من الآيات، ولا شك أن التشبيه من أبطل الباطل، والذين قالوا به قلة، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وليس من هذه الفرق طائفة تقول بهذا التشبيه، وإنما يوجد بعض الأفراد يقولون بذلك.
ولكن سبب كثرة الكلام في هذا أن كل من قال مقالة واعتقد عقيدة فمن يخالفه في مقالته وفي عقيدته يرميه بالتشبيه، فيقول: أنت مشبه، فكثر الكلام بهذا السبب؛ ولهذا نجد في كتب المقالات وغيرها من الكتب أنهم يعينون أناساً من الأئمة، فيقولون: هناك طائفة يقال لها (المالكية) إمامهم مالك بن أنس مشبهة، وطائفة يقال لها:(الحنبلية) إمامهم أحمد بن حنبل مشبهة، وهكذا، ويجعلون الذي يأخذون الآثار ويعملون بها من أهل الحديث مشبهة.
وهكذا إذا نظرنا إلى الطوائف نفسها، فمثلاً اتباع أبي الحسن الأشعري الذين يسمون الأشعرية، بينهم وبين المعتزلة عداء وخصام، فالمعتزلة يرمون الأشاعرة بالتشبيه؛ لأنهم أثبتوا لله بعض الصفات، والمعتزلة يرون أن من أثبت صفة من الصفات كالسمع والبصر والكلام والإرادة فهو مشبه، فإذا أثبتها قالوا: أنت مشبه، والأشاعرة يجعلون من المشبهة من يثبت النزول لله جل وعلا في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، أو يثبت العلو لله على خلقه، وكونه مستوياً على عرشه، أو يثبت الضحك لله، وأن الله يفرح ويحب ويرضى ويسخط، فيجعلونه مشبهاً، ويسمونه مشبهاً، ويقولون: هذا مشبه، وهكذا كل طائفة من الطوائف ترمي الطائفة التي خالفتها بالتشبيه، فهذا سبب كثرة الرمي بالتشبيه، وهذا يكون له مقالات معينة في كتب المقالات، ويسمونها طائفة المشبهة، ولكن لو طلبت طائفة معينة لها إيمان تقول بهذا ولها كتب تدافع عن هذا، وتستدل به لم يوجد ذلك أبداً، فليس لهذا وجود، وإنما التشبيه على حسب اعتقاداتهم، وعلى حسب ما يرون أنه باطل، بخلاف القسم الأول فإنه كثير جداً، ولكن لا يسمونه تشبيهاً، وإلا فالذي يأتي إلى القبر ويسأله أن يمده بالنصر وبالإغاثة وبالرزق وبالعطاء وبالنجاة وأن يتوسط له عند الله هذا هو المشبه حقاً، فقد شبه صاحب القبر برب العالمين في دعوته، وفي الطلب منه، وفي طلب ما لا يقدر عليه إلا رب العالمين تعالى وتقدس.
ولهذا السبب أخبرنا ربنا جل وعلا عن الذين سموا المعبودات التي يتجهون إليها (آلهة) أن هذا كذب وزور، وأنها مجرد أسماء وضعت على مسماها، فقال:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[النجم:٢٣] يعني: ليس لها من معنى الإلهية شيء أبداً، إنما هو كذب وزور، فوضعت هذه الأسماء من أجل الكذب والتزوير والاعتقاد الباطل، وهذا في الواقع يختلف باختلاف الدعوات والاتجاهات.