للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المراد بالظلم في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢]].

هذه الآية من الأدلة على فضل التوحيد وأنه يكفر الذنوب، فقول الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢] وجه البيان فيه من جهتين: الأولى: أنه أخبر أن لهم الأمن، والأمن جاء معرفاً باللام، فشمل الأمن في الدنيا وفي الآخرة، أما الأمن في الدنيا فيأمن عذاب الله الذي ينزله على المشركين الذين لا يعملون بالتوحيد، وقد بين الله جل وعلا ذلك في قصص الأنبياء كثيراً.

الجهة الثانية: أنه أخبر أنهم هم المهتدون، والاهتداء ينتهي بالسعادة في سكون الدرجات العلى، وهي درجات الجنة.

وقوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) هذا فصل للخطاب والخصومة التي وقعت بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه حينما هددوه وتوعدوه بآلهتهم التي يعبدون من دون الله، فتبرأ منها وقال: كيف تخوفونني بما تشركون به بهذه الأصنام، وأنتم لا تخافون الله وأنتم تشركون، فأي الفريقين أحق بالأمن: المشرك أو المخلص؟ فجاء قول الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنعام:٨٢] يعني: هم الأحق بالأمن والاهتداء، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:٨٢]، والإيمان يشمل امتثال أمر الله جل وعلا واجتناب نهيه كله مع اقتران القلب بالخشية والإنابة والذل والخوف من الله جل وعلا.

وقوله: (ولم يلبسوا إيمانهم) اللبس هو: الخلط.

يعني أنهم لم يخلطوا إيمانهم بظلم، والظلم هنا فسر بالشرك، فقد جاء في الحديث الصحيح أنه لما نزلت هذه الآية قال الصحابة: (أينا لا يظلم نفسه؟)، وهذا أمر شديد؛ لأنهم تصوروا أن المراد مطلق الظلم، وكل معصية ومخالفة تدخل في ذلك، والإنسان لا يمكن أن ينفك عن معصية أو مخالفة، وهذا في كل الناس، وقد استثني من ذلك الأنبياء والرسل فقط، فقالوا: إنهم معصومون.

والصواب أن العصمة للرسل فيما يبلغون عن الله جل وعلا، وإلا فقد يقع منهم مخالفات فيعاتبهم الله جل وعلا عليها، ثم تكون حالتهم بعدها أحسن مما قبلها، أي أنهم لا يقرون على المخالفة، بل يعاتبون ويتوبون، ويكون آخر أمرهم أحسن من أوله، أما من عداهم من بني آدم فكلهم يخطئون، وكلهم يذنبون ولابد، وهذا مقتضى أسماء الله جل وعلا وأوصافه، فالله جل وعلا من أسمائه الغفور والرحيم والتواب، وكذلك كونه جل وعلا يستر على عباده، وكونه جل وعلا يرحمهم، وكونه جل وعلا هو البر الرؤوف، فلابد أن تظهر آثار هذه الأسماء، وإذا لم يكن هناك معاصٍ، وذنوب لا تظهر هذه الآثار، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، فهكذا خلق الإنسان، ولما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:٨٢] قال الصحابة رضوان الله عليهم: أينا لا يظلم نفسه؟ هذا لا ينفك منه أحد فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس ذاكم، وإنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣])، فجعل الشرك هو الظلم في هذا، وليس معنى ذلك أن الذنوب خارجة عن الظلم، لا.

ولكن المذنب إذا كان سالماً من الشرك فهو وإن حصل له من عدم الأمن خوف وحصل له شيء من العذاب فمآله إلى الأمن، مآله إلى الجنة ولابد، فإن عذب في الدنيا صار ذلك كفارة له، وإن لم يكف تعذيبه في الدنيا عذب في القبر فصار كفارة له، فإن لم يكف ذلك عذب في الموقف، فإن لم يكف ذلك عذب في النار، وهذا آخر التعذيب، ثم يخرج منها إلى الجنة ولا يبقى في النار أحد من أهل التوحيد، فأهل التوحيد لا ينتفي عنهم الأمن، وإنما ينتفي عنهم مطلق الأمن الذي هو الأمن التام والاهتداء التام إذا كان عندهم ذنوب، وإنما ينتفى الأمن عن المشرك الذي يشرك بالله جل وعلا ويموت على شركه، فليس له أمن ولا اهتداء، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (هو الشرك)، يعني: الذي يخلط إيمانه بشرك يكون خاسراً، ويكون له العذاب، ولا يناله شيء من الأمن والاهتداء.

وهذا يدل على أن الإنسان قد يجتمع له إيمان وشرك كما يجتمع له معاصٍ وبر وطاعة، وقد يكون عنده شيء من الإيمان وشيء من الشرك، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦]، يقول مجاهد وغيره من المفسرين: إيمانهم أنك إذا سألتهم: من خلقهم؟ ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله.

وشركهم أنهم يعبدون مع الله غيره, وهذا هو الشرك الأكبر الذي يكون صاحبه خالداً في النار إذا مات عليه ولم يتب قبل موته منه.

فهنا يقول: ((الذين آمنوا)) يعني: اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقبلوا ما جاء به واجتنبوا ما نهاهم عنه، فعملوا بالأمر واجتنبوا النهي، ((ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)) يعني: لم يخلطوا هذا الإيمان بشرك.

((أولئك لهم الأمن)) الأمن التام الذي لا ينالهم معه عذاب في الدنيا ولا في القبر ولا في الآخرة، ((وهم مهتدون)) في الدنيا باتباع الحق وسلوكهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الهداية إلى منازلهم التي أعدها الله جل وعلا لهم في الآخرة، فهذا هو آخر الهداية، فيهدون في الدنيا بأن يعملوا بعد الحسنة حسنة، ويزدادون بعد الخير خيراً، ويهتدون في الآخرة بأن يعرفوا مساكنهم أكثر من معرفتهم مساكنهم في الدنيا قبل أن يروها، وهذا من تمام الهداية.

[قال ابن جرير: حدثني المثنى وساق بسنده عن الربيع بن أنس قال: الإيمان الإخلاص لله وحده.

وقال ابن كثير رحمه الله في الآية: أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والآخرة.

وقال ابن زيد وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣]؟)، وهذا الحديث في الصحيح والمستدرك وغيرهما].

قوله: (هذا على فصل الخطاب من الله جل وعلا بين إبراهيم وقومه) يعني أن هذا الكلام مستأنف، وأن قصة إبراهيم مع قومه انتهت عند قوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:٨١] إلى هنا انتهت قصة إبراهيم، ثم جاء الحكم من الله فاصلاً بين الفريقين -بين إبراهيم وقومه- بقوله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:٨٢] إلى آخره، فهذا معنى قوله: (هذا على فصل الخطاب) يعني أنه حكم مستأنف حكم الله جل وعلا به بين الفريقين، بين إبراهيم وقومه الذين خاصمهم.

والقول الثاني للمفسرين أن هذا من تمام القصة، وأن هذا من تمام قول إبراهيم: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:٨١] قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢]، ويكون هذا من تمام القصة ومن تمام كلام إبراهيم عليه السلام، وهو كلام حكاه الله جل وعلا عن الفريقين، فهو لا يخرج بذلك عن كونه كلام الله تكلم به حاكياً ما وقع بين إبراهيم وقومه، ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام كانت لغته غير عربية، ما كان يتكلم بالعربية، والله جل وعلا ذكر هذا باللغة العربية، فهو كلامه الذي حكاه كما وقع لإبراهيم وقومه.

وهكذا سائر قصص الأنبياء، فإنهم ليسوا عرباً، يقول العلماء: العرب من الأنبياء أربعة فقط، وأما بقية الأنبياء فكلهم عجم.

فالعرب: هود وصالح وشعيب ومحمد صلوات الله وسلامه عليه، أما بقيتهم فكلهم عجم، وكل قصص الأنبياء جاءت باللغة العربية لأن الله جل وعلا حكى ذلك وتكلم به ناكراً ما وقع لهم، فهو كلامه جل وعلا يذكر ما وقع بين الرسول وقومه، ومنه هذه القصة لإبراهيم.