للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عبادة قوم نوح لتماثيل الصالحين]

ثم جاء أبناؤهم، وربما أبناء أبنائهم, ونُسي السبب الذي من أجله صُوِّرت هذه الصور، فجاء دور الشيطان أيضاً مرةً أخرى، فأتى إليهم وقال: آباؤكم ما صوروا هذه الصور إلَّا للتبرك والاستشفاع وطلب الوساطة بها، وقد كانوا يستسقون بها ويجعلونها واسطةً لهم عند الله! فعُبدت، وهذا أول شرك وقع في الأرض.

وهذا الشرك سببه: الغلو، والحب الزائد في الصالحين، فزِيد في الحق حتى تُرك الدين، ووقع الناس في عبادة غير الله جلَّ وعلا.

ولهذا السبب أرسل الله عز وجل نوحاً عليه السلام، وصار يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك هذه الأصنام، وبقي -كما ذكر الله جلَّ وعلا- يدعوهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ألف سنة إلَّا خمسين عاماً، فلم يستجيبوا له، بل صار بعضهم يوصي بعضاً بالتمسك بهذه الأصنام، ويؤكدون على ذلك كما قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارَاً * وَمَكَرُوا مَكْرَاً كُبَّارَاً * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَاً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرَاً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالَاً} [نوح:٢١ - ٢٤].

فقوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:٢٣] يعني: يقول بعضهم لبعض ويوصي بعضهم بعضاً: إياكم أن تتأثروا بدعوة نوح! إياكم أن تتركوا آلهتكم لقول نوح! تمسكوا بها! ولهذا أكَّدوا ذلك: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ)، فجعلوها آلهة، والآلهة هي المألوهة التي تألهها القلوب وتحبها وتعظمها وترجو نفعها ودفع الضر بها، وهذا عام، ثم صاروا يخصون هذه الأصنام، فهم: أولاً: أوصوا بالتمسك بالآلهة عموماً: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:٢٣].

ثم أكدوا الوصية بهذه الأصنام الخمسة: وَد وسُواع ويغوث ويعوق ونسر.

إلى أن أيس نوح عليه السلام من استجابتهم، وكان يرجو أن يولد لهم أولاد يستجيبون لدعوته، فصار كلما وُلد مولود علَّموه عبادة الأوثان وحذَّروه من اتباع نوح عليه السلام، ولهذا قال تعالى حاكياً عنه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً} [نوح:٢٦ - ٢٧] أي: أن أولادهم كانوا فجاراً وكفاراً.

ثم بسبب تمسكهم بعبادة غير الله أهلكهم الله جلَّ وعلا بالغرق الذي جاء على جميع الأرض، ولم يَبقَ على الأرض حي إلَّا من كان في سفينة نوح فقط.

ثم إن الذين كانوا في السفينة نموا وكثروا، وقد ذكر الله جلَّ وعلا في كتابه أن ذرية نوح هم الباقون، فصار الناس الذين بقوا هم أولاد نوح وكان أولاده أربعة، فانتشروا في الأرض وصار منهم الأمم الكبيرة.

فوقع فيهم الشرك مرة أخرى بأسباب الله أعلم ما هي؛ ولكن هذا من أعظمها، فأرسل الله جلَّ وعلا إليهم الرسل تدعوهم إلى التوحيد وتنهاهم عن الشرك وعبادة غير الله جلَّ وعلا، وكل أمة تعصي رسولها وتأبى من اتباعه وإخلاص الدين لله جلَّ وعلا، فكان الله جلَّ وعلا يهلكهم بعذاب عام يعمهم، كما وقع لقوم نوح، وقد ذكر الله جلَّ وعلا بعض قصصهم؛ لأن الله لم يقص علينا قصص كل الرسل، وإنما قُصَّ علينا بعضهم، ولهذا يقول جلَّ وعلا: {وَرُسُلَاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:١٦٤] إنما ذُكر لنا ما فيه الكفاية وفيه المعتبر.

وقد جاء أن هذه الأصنام التي كانت في قوم نوح وُجدت في العرب، ذكر ذلك ابن عباس، وذكره محمد بن إسحاق في السيرة، وذكره ابن الكلبي في كتابه (الأصنام) وذكره عمر بن شبه في (تاريخه)، وذكره الأزرقي أيضاً، وغيرهم من الذين كتبوا في هذا، ذكروا أن هذه الأصنام حملها الطوفان وألقاها في قرب جدة على الساحل، فسَفَتْ عليها السَّوافي فاندفنت، ومرت عليها العصور الطويلة الكثيرة جداً.