للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اشتداد غضب الله على الذين يتخذون القبور مساجد]

يجب على المسلم أن يتتبع ويطلب بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن البيان قوله المتقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وهذا يدلنا أيضاً على أمور: الأول: أن الله يغضب على بعض الناس، وأن غضبه قد يكون شديداً، وقد يكون أقل من ذلك، يعني: أن غضبه يتفاوت على حسب الذنوب.

الثاني: أن معنى قوله: (اتخذوها مساجد) أي: محلاً للسجود، يعني يصلون عندها، فجعلوها محلاً للعبادة، يعني: أنهم يتحرون العبادة عندها، وهذا ليس بشرك ولكنه من وسائل الشرك التي توقع فيه؛ لأنه إذا صلى عند القبر تحرى الصلاة عنده، وتحرى الدعاء عنده، ويوشك أن يتدرج شيئاً فشيئاً حتى يعبد القبر، ويسأل من فيه، فلهذا منعت العبادة عند القبور.

الثالث: أن الأمور التي جاءت في ذم اليهود والنصارى ومن سبق من الأمم إنما المقصود بها تحذيرنا نحن أن نقع فيما وقعوا فيه.

الرابع: أنه إذا حصل منا شيء يشابه ما حصل منهم فالحكم سواء لا يختلف، يعني: ما قيل فيهم يقال فينا، وما أصابهم يصيبنا، وقد يكون أشد، وذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء، ومن خالف أفضل الأنبياء يكون عذابه أشد وأعظم، وهو صلوات الله وسلامه عليه بالغ في التحذير من ذلك.

الخامس: أنه لا فرق بين قبور الأنبياء وغيرها في جعلها محلاً للعبادة، وبهذا يتبين لنا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) كما في الصحيح، وأن المعنى لا تجعلوها شبيهة بالقبور ليس فيها عبادة؛ لأنه متقرر في الشرع أن المقبرة لا يتعبد فيها، والقبور لا تفعل العبادة فيها، فإذا ترك البيت من العبادة: من تلاوة القرآن والصلاة والذكر وما أشبه ذلك؛ صار شبيهاً بالمقبرة؛ ولهذا أمر بالتعبد فيها بالصلاة والقراءة، (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)، وبهذا يتبين لنا أن المقصود: منع الأمة أن تتعبد عند القبور بعبادة تقصد بها وجه الله، فكيف إذا قصد صاحب القبر بالعبادة؟! فالمنع من أجل ألا يقع شيء من الشرك؛ لأن هذا هو الشرك الأكبر الذي إذا فعله الإنسان ومات عليه يكون خالداً في جهنم.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).

هذا الحديث رواه مالك مرسلاً عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحديث.

ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به، ولم يذكر عطاء، ورواه البزار عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً، وله شاهد عند الإمام أحمد بسنده عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: (اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).

قوله: روى مالك في الموطأ هو: الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي أبو عبد الله المدني إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، وأحد المتقنين للحديث حتى قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر مات سنة تسع وسبعين ومائة، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقيل: أربع وتسعين وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة.

قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) قد استجاب الله دعاءه كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه في عزة وحماية وصيان].

هذا قاله ابن القيم في زمنه في القرن السابع؛ لأنه توفي سنة سبع مائة وواحد وخمسين رحمه الله، وتغير الوضع عن ذلك الوقت، ولكن الأمور تتعلق بالنيات، إذا كان الإنسان خلف القبر وقصد الصلاة إليه وإن كان من مسافات بعيدة؛ فلا ينفعه إذا كان بينه وبينه حائط أو حيطان، وإنما المقصود منع التوجه إليه.