للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب محبة الله جل وعلا ومحبة شرعه، وبغض ما نهى عنه]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقد سمى الله تعالى الهوى المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلهاً فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:٤٣] قال بعض المفسرين: لا يهوى شيئاً إلا ركبه.

قال ابن رجب رحمه الله: أما معنى الحديث، فهو أن الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعةً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أُمر به، ويكره ما نُهي عنه، وقد ورد القرآن بمثل هذا المعنى في غير موضع، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كره الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:٢٨].

فالواجب على كل مؤمنٍ أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه، فإن زادت المحبة حتى أتى بما نُدب إليه منه كان ذلك فضلاً، وأن يكره ما يكره الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فإن زادت الكرهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيهاً كان ذلك فضلاً.

فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله، ويكره ما يكره الله ورسوله، فيرضى بما يرضى به الله ورسوله ويسخط ما يسخط الله ورسوله، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله وترك ما يحب الله ورسوله، مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت، فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله].

محبة الله جل وعلا هي عبادته، ومحبته هي محبة ذل وخضوع واستكانة وتعظيم، وهذا لا يجوز أن يكون لمخلوق؛ لأن هذا هو التأله الذي بنيت عليه العبادة، وأنه هو إله الخلق، وهنا إذا كملت المحبة هذه وتمت صار يحب أمره، ويحب أن يبتعد عن نهيه، وكل ما أحبه الله جل وعلا من العباد الذين يعبدون الله ويحبونه يحبهم من أجل الله، ويحبهم في الله.

وكذلك من خالف ذلك فهو يبغضه لله، وبهذا تكمل العبادة، وليس هذا من الأمور التي تكون مستحبه إذا فعلها الإنسان أثيب على فعلها وإن لم يفعلها لم يعاقب، بل هذا أمر لازم لابد منه، فلابد أن يحب الله جل وعلا ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن محبته من محبة الله جل وعلا، فيحبه لأن الله أحبه، وأمر بمحبته، ولأنه هو الذي جاء ببيان وجوب محبة الله جل وعلا ودل عليه.

وكذلك عباد الله الذين يحبهم الله من الملائكة والرسل وبني آدم، وفي مقابل ذلك يبغض من يبغضهم الله ورسوله، لهذا يقول الله جل وعلا: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:٩٨] فمن عادى أولياء الله فإنه يعادي الله جل وعلا، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (من عادى لي ولياءً فقد آذنته بالحرب) أي: بالمحاربة ومن الذي يقوم لمحاربة الله جل وعلا.

والمقصود: أن الذي يُحب للذل والخضوع ويُحب لذاته هو الله جل وعلا وحده، أما المخلوقات فتحب للصفات التي فيها، فالمخلوق يُحب لما يتصف به من محبة الله وطاعته فقط، ولا يحب لأنه لحم ودم ولأنه على هذا الشكل، وإنما يُحب لما يتصف به، وإنما الذي يُحب لذاته هو الله وحده، ولا يشاركه في ذلك شيء، فيجب أن يُحب الحب الذي يكون خاصاً به، ولا يُشارك في حبه نبي ولا ولي؛ فإن حبه حب عبادة، أما حب العباد فهو حب لأنهم يحبون الله ويقومون بأمره، ويجتنبون نهيه، فهو حب لله وفي الله، فكل مخلوق إذا كان يُحب الله ويقوم بأمره فهو يُحب لله وفي الله، ولا يحب لذاته، وإنما الذي يحب لذاته هو الله وحده فقط.

وفي هذا الحديث يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) يعني: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، هنا نفى الإيمان، والإيمان المنفي هنا ليس هو الإيمان من أصله؛ لأن هذا يوجد في أهل المعاصي الذين يرتكبون المعاصي ويحبون المعصية، ولولا أنهم يحبون المعصية ما ارتكبوها، وكذلك منهم من يكره نوعاً من الكراهة فعل الطاعة وتثقل عليه، ومع ذلك لا يكون بهذا خارجاً من الدين الإسلامي، بل عنده شيء من الإيمان يصح به إسلامه؛ لأنه يؤمن بالله أنه هو الذي خلقه، وهو الذي إليه مصيره، وهو الذي كلفه بالعبادة، ولكنه يتساهل، فمثل هذا ناقص الإيمان، وقد ترك من الإيمان ما هو واجب عليه، فيعاقب على تركه إن لم يتب من ذلك ويرجع إلى ربه عوقب على هذا الترك، وإنما يستكمل الإنسان الإيمان إذا كان يحب الطاعات، وتكون هذه موافقة لما في نفسه، فلا يكون عنده تضجر ولا إباء، ولا عنده أيضاً تردد في ذلك أو كرهيه له، بل يرى أن الطاعة فيها سعادته، بل هي أحب إليه من الأكل والشرب، ويكون فيها قرة عينه، فإذا كان كذلك فقد استكمل الإيمان، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، فقرة عينه صلوات الله وسلامه عليه كانت في الصلاة، والذي يكون له نصيب من اتباعه لابد أن يرث شيئاً من ذلك، والإنسان قد يكون مستقلاً وقد يكون مستكثراً.

وكذلك يكون كارهاً ومبغضاً لما نهى الله عنه من المعاصي، وتزداد الكراهة كلما عظمت المعصية، حتى إذا وصل الأمر إلى الكفر يود أنه تُمزق أشلاؤه ويُحرق في النار ولا يدخل في الكفر، فإذا كان كذلك فإن هذا من تمام الإيمان ومن كماله الواجب الذي يجب أن يفعله الإنسان، وإذا رأيت الإنسان يرتكب المعاصي ويتهاون بالطاعات والأوامر فهو ناقص الإيمان، وليس عنده الإيمان الذي يجب أن يحمله على الفعل أو الترك، ولهذا جاء في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن).

فقوله: (وهو مؤمن) هنا الواو حالية، يعني: حالة كونه يفعل هذه الأفعال يكون ليس مؤمناً.

وليس معنى هذا أنه يكون كافراً، لا، ولكن ليس عنده الإيمان الكامل الذي يمنعه من ارتكاب هذه الجرائم؛ لأن الإيمان الكامل يمنع الإنسان أن يفعل هذه الأفعال، فإذا نقص إيمانه صح أن ينفى عنه الإيمان، فإذا ذهب ركن أو جزء من الإيمان الواجب صح أن ينفى عنه، كما يقال: لا صلاة لمن لم يتوضأ، فيصح هنا نفي الصلاة، وكذلك: لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة؛ لأن إقامة الصلب ركن من إقامة الصلاة، فهذا هو المذهب الذي عليه أهل السنة، خلافاً للخوارج الذين يأخذون بظاهر مثل هذه النصوص، ويطبقونها على المسلمين، ويجعلونهم كفاراً خارجين من الدين الإسلامي، وهذا ضلال ظاهر؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما زنت المرأة رجمها وصلى عليها.

وكذلك لما شتم إنسان أو سب شارب الخمر نهاه عن ذلك وقال: (إنه يحب الله ورسوله)، والله جل وعلا يقول في القاتل الذي يقتل مسلماً: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:١٧٨]، فسماه أخاً، يعني أن القاتل أخ للمقتول، وهذه الأخوة ليست أخوة النسب، وإنما هي أخوة في الإيمان.

والنصوص في هذا كثيرة، ومعلوم أن أقوال الله جل وعلا وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله لا تتضارب، ولا يناقض بعضها بعضاً، بل يجب أن يجمع بينها، وأن يصدق بعضها بعضاً، كما فعله أهل السنة، خلافاً للخوارج والمعتزلة وغيرهم من أهل البدع.