للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

معنى قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)

قال المصنف رحمه الله: [وقول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:١٧١]].

سبق أن الأوامر التي وجهها الله جلَّ وعلا لأهل الكتاب حول الأمور التي ذمهم عليها وأخبر أنهم فعلوها وتركوا بذلك دينهم، أننا نحن المقصودون بها، ومن المعلوم لدى المسلمين أن خطاب الله جلَّ وعلا يعم كل من على وجه الأرض؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى الناس كافة، وليس هذا خاصاً بأهل الكتاب؛ ولكن المفروض في أهل الكتاب الذين أُنزل عليهم الكتاب من الله أن يكونوا قدوة للناس في فعل الحق وسلوكه، وإذا ضل هؤلاء فغيرهم أولى أن يضلوا.

وقول الله جلَّ وعلا: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) هذا نداء من الله جلَّ وعلا لهؤلاء، والنداء في ضمنه طلب الالتفات والعطف والنظر والاهتمام، فإن الله جلَّ وعلا ينبههم إلى هذا الأمر المهم.

قوله: (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) يعني: لا تتجاوزوا الأوامر والنواهي التي جاءت من عند الله جلَّ وعلا.

فأما مجاوزة الأوامر فبالتشدد والمبالغة عند من يرى أنه أهل للاجتهاد والارتفاع عن هذا الشيء، فمجاوزة الأمر بالتشدد من الغلو.

وأما في النهي فهو مثل ذلك أيضاً، بأن يتجاوزه إلى غير المنهي عنه، فيقع في المحظور.

ويقابل هذا الجفاء والمعصية، فإن الأمر يجب أن يكون على وفق ما جاءت به الرسل، ويكون مراداً به وجه الله جلَّ وعلا، فلا يكون فيه تقصير، ولا يكون فيه غلو وزيادة؛ لأن الإنسان عبد، والعبد عليه أن يمتثل أمر سيده بدون نقص ولا زيادة.

قوله: (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) هذا عام يشمل الدين كله، وهو خطاب لكل من تأتى له الخطاب من أهل الكتاب وغيرهم، ومعلوم أن الكتب السابقة لكتابنا قد نُسخت بالقرآن، ولكن الكتب التي جاءت من عند الله بعضُها يصدِّق بعضاً، وهي في العقائد وعبادة الله متفقة ومتحدة لا تختلف، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:٥]، فالأولون والآخِرون أُمروا بهذا، وكتب الله اتفقت على ذلك، ولهذا أمرهم ألَّا يتجاوزوا الحدود، فقال: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:١٧١].

وقوله: (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) يدلنا على أن الغلو يكون بالفعل وبالقول.

وقولهم على الله غير الحق قد بُيِّن في أماكن متعددة من القرآن نذكر بعضاً منها: منها ما هو كفر صريح كقولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:٣٠]، وقولهم: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:٣٠] وما أشبه ذلك.

ومنها ما هو أقل من الكفر.

ومنها ما هو معصية.

وقد أخبر الله جلَّ وعلا عن أشياء مما كانوا يفعلونها، ومن الأمور التي تجاوزوا الحدود وغلوا فيها، فمنها تغييرهم حدود الله جلَّ وعلا وتبديلها بأشياء من عندهم، فقد كانوا يبدلونها بأشياء يتفقون عليها وأوضاع يتواضعونها مع معرفة ذلك ووضوحه في كتاب الله جلَّ وعلا عندهم، فهذا أيضاً من الغلو في الأمر؛ حيث تركوه مع وضوحه غالين في محبتهم لأنفسهم ولأهوائهم، ومحبتهم لما يكون سائغاً فعله بينهم جميعاً.

وكذلك غيرهم ممن كان متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه وقع فيهم الغلو، ولهذا عُبدت القبور، ونُصبت عليها القباب، ووُضعت لها الأستار، وجُعل لها السَّدَنَة الذين يدعون الناس إلى عبادتها، ويحضونهم على تقديم النذور، وإن كانوا هم الذين ينتفعون بذلك، ويوجدون الحكايات التي لا تستسيغها العقول من أن هؤلاء الأموات يتصرفون، وأنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يزورون من يشاءون، وأشياء عجيبة جداً، وكلها من الغلو الذي بسببه تُرك الدين.