للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث علي: (لعن الله من ذبح لغير الله)]

قال الشارح رحمه الله: [قوله: وعن علي رضي الله عنه قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض) رواه مسلم من طرق، وفيه قصة.

ورواه الإمام أحمد كذلك عن أبي الطفيل قال: قلنا لـ علي: أخبرنا بشيء أسرَّه إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما أسرَّ إليّ شيئاً كتمه الناس، ولكن سمعته يقول: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير تخوم الأرض) يعنى المنار].

الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، بل بعث إلى الثقلين: الجن والإنس، فهو رسول لجميع من على وجه الأرض، والذين على وجه الأرض هم الجن والإنس، فلا يمكن أن يخص إنساناً بعينه بشيء جاء به من عند الله؛ لأنه مبلغ عن الله جل وعلا، فهو يبلغ عموم الناس، ولهذا كان إذا حدث بالحديث أعاده ثلاثا، ً ثم يقول: (بلغوا عني)، ويقول: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما وعاها، فرب مبلغ أفقه من سامع) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

فالذي يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم خص قوماً دون آخرين بما يبلغه فهو ضال، ولم يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، والله جل وعلا يقول له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:٦٧] ولا يعترض على هذا بأنه صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة، وسمي صاحب السر؛ لأن إسراره إلى حذيفة كان بأسماء أناس معينين من المنافقين، قال له: فلان منافق، وفلان منافق، وفلان منافق، وهؤلاء كانوا يخضعون لأحكام الإسلام، وكانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد وفي الصلاة وفي غير ذلك، إلا أنهم أبطنوا كفراً ونفاقاً، فأخبره بذلك وقال له: لا تخبر أحداً، ولهذا كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إذا مات الرجل ينظر إلى حذيفة هل يصلي عليه أو لا يصلي عليه؟ فإن صلى عليه حذيفة صلى عليه، وإذا لم يصل عليه امتنع من الصلاة عليه.

والسبب في هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عاد من غزوة تبوك كان يسير ذات ليلة في الليل، وكان أمامه جبل وفيه عقبة فقال للمسلمين: (إني سالك في هذه العقبة فلا يسلكها أحد حتى انتهي أو أذهب) فانتهز بعض المنافقين فرصة، وقالوا: هذه فرصة لنذهب ونكمن له في عرض الجبل فإذا توسط به نفرنا به ناقته فيسقط من عليها ويموت، هكذا خططوا ودبروا فسار الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه حذيفة يقود ناقته، ومعه كذلك عمار بن ياسر يسوقها، فلما صار في أثناء الجبل في الطريق وهو يصعد نفذوا مخططهم، وساروا في وجه ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار حذيفة يضرب وجوه ركائبهم وكانوا متلثمين فهربوا خوفاً من أن يعرفوا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل عرفت القوم؟ قال: لا، ولكني عرفت بعض الرواحل، فأخبره بأسمائهم وقال: هم فلان وفلان وفلان وفلان، ثم قال له: لا تخبر أحداً) لأن الله جل وعلا أمره أن يأخذ علانيتهم وأن يكل سرائرهم إلى الله، فإذا قال الإنسان: آمنت وامتثل الواجبات والفروض كالصلاة والصوم والزكاة فيحكم بأنه مسلم، وإن كان مكناً في نفسه التكذيب والكفر، فالذي في القلب إلى الله.

والمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يسر شيئاً من الدين لأحد، ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:٣٧] لأن هذا معاتبة له، ومع ذلك أظهره وبينه، ولم يخف شيئاً من ذلك، ولا يمكن أن يكون؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أمين الله على وحيه، وهو الذي يبلغه إلى خلقه، وهو الواسطة بيننا وبين ربنا في إبلاغنا الدين، ولا يكون هذا المبلغ والواسطة إلا أميناً صادقاً حتى لا يكتم شيئاً، وهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله، فلا يمكن أن يتحلى الإنسان بأنه يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا تيقن يقيناً أنه جاء بالدين كله من عند الله، وبلغه البلاغ المبين، ولم يكتم شيئاً، ولم يسر لأحد شيئاً من هذا الدين.