المراد بنفي الكلام: كلام الإكرام؛ لأن الله جل وعلا إذا كلم عبده فهو من النعيم العظيم، وليس المقصود نفي كلام التوبيخ أو كلام التعذيب والتهديد كقوله جل وعلا:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون:١٠٨]، فالله يخاطب أهل النار، فيكلم من شاء: لماذا فعلت كذا؟ ولماذا لم تفعل كذا؟ من باب التوبيخ والمحاسبة، وهذا من العذاب، وإنما المراد: نفي الكلام الذي فيه إكرام، وهذا يدلنا على أن الله يكلم عباده المؤمنين إكراماً لهم، وهؤلاء خصوا بأنهم لا يكلمون.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)، فهذا عند المحاسبة.
وجاء عن عبد الله بن عمر في الصحيحين أنه سئل: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ يعني: عندما يناجي الله عبده قال: سمعته يقول: (يدني الله عبده المؤمن فيضع عليه كنفه) يعني: يستره عن الناس، فيقرره بذنوبه ويقول: فعلت كذا يوم كذا في مكان كذا، فيتغير لونه، فإذا رأى أنه قد هلك يقول له الله جل وعلا:(سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)، فيعطى كتابه بيمينه، فيبيض وجهه.
فكونه يستره بأن يضع عليه كنفه لئلا يبصره الناس عندما يسأل فيتغير لونه، وهذا الأشيمط الزاني ليس من هؤلاء؛ لأنه لا يكلم، بل يعذب رأساً.
ومثله العائل المستكبر، والعائل هو الفقير؛ لأن الفقر ليس داعياً للكبر والغطرسة والتجبر والاستعلاء على الناس، وإنما يدعو إلى ذلك الغنى والمناصب الرفيعة والرئاسات، فهذه هي التي تدعو إلى الكبر، فالله جل وعلا يقول:{كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق:٦ - ٧].
فالغنى داع للكبر، فإذا وجدت خصلة الكبر في الإنسان بدون داعٍ دل ذلك على أنه شيء متأصل فيه، وأن هذا خلق يتخلق به، وعمل من أعماله، فاستحق المقت واستحق العذاب.
أما الثالث الذي جعل الله بضاعته، يعني: أنه اتخذ الحلف بالله مكسباً، إذا أراد أن يبيع حلف أنه لا يبيع إلا بكذا وكذا ويحلف أنه اشتراه بكذا وكذا، فهذا كذلك؛ لأنه رغب في الدنيا عن الآخرة، وصارت الدنيا أرغب عنده مما عند الله، فاستحق أن الله لا يكلمه.
وقوله:(ولا يزكيهم) التزكية هي التطهير من الأدناس، أي: لم يطهرهم الله جل وعلا من آثار الذنوب والدنس، ومعنى ذلك الهلاك؛ لأن كل إنسان لا يخلو من ذلك، وكل إنسان لابد أنه يقع في مخالفات، ويقع في دنس يدنس به دينه من معاصٍ لا ينفك عنها، وهذا أمر جبل عليه الناس لا ينفكون عنه، (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) وهم الذين يرجعون إلى الله ويتوبون، فمن لم يزكه الله فمعناه أنه لم يتب عليه، وما طهره وما نقاه من عيوبه وآثامه، فيكون هالكاً، فهذا وعيد شديد لمن كانت هذه صفته.