تفسير قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٢ - ٢٣]].
هذه الآية توضح وتبين أن طلب الشفاعة من غير الله ضلال وشرك، وأن الذي يُدعى أو يُطلب يجب أن يكون مالكاً لما يُدعى من أجله، فإن لم يكن مالكاً يكون مشاركاً للمالك، وهذا أقل درجة، فإن لم يكن مشاركاً للمالك يكون مساعداً ومظاهراً له ومعاوناً له، فإن لم يكن كذلك -يعني: انتفت الأمور الثلاثة- ينبغي أن يكون شافعاً كما يقع من الوزارء والكبراء لمن يكون عنده أمر من أمور الناس يطلبونه، فنفى الله جلَّ وعلا ذلك، وأن هذا لا يقع إلَّا بإذنه، فنفى على التدريج: نفى الأعلى، ثم ما دونه، ثم ما دونه، ثم نفى الشفاعة: {قُلِ ادْعُوا} [سبأ:٢٢] وهنا: (قل) الأمر للتعجيز يعني: يأمر الله جلَّ وعلا نبيه أن يقول للمشركين الذين يزعمون أن أصنامهم تشفع لهم، على حسب اختلافها؛ لأنه عُلم أن المدعوات من دون الله مختلفة، فمنهم من يدعو شجراً، ومنهم من يدعو حجارةً، ومنهم من يدعو الجن، ومنهم من يدعو الأنبياء، ومنهم من يدعو الملائكة، ومنهم من يدعو أجراماً من أجرام السماء كالشمس والقمر والنجوم وغيرها، وكلهم سواء، وكلهم يشملهم هذا الخطاب، وهذا الأمر: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ:٢٢] (زعمتم) يعني: أن دعوتهم هذه كذب؛ وذلك لأن المدعو من دون الله ما يملك شيئاً، وليس إلهاً، فتسميتهم آلهة من الكذب الذي افتروه على الله جلَّ وعلا؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم:٢٣] يعني: أسماء وضعتموها على مسميات لا حقيقة لها، وليس لها شيء من هذه التسمية في الحقيقة.
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ:٢٢] وغالباً إذا جاءت كلمة (زعم) فالمقصود بها: الكذب، فهم يكذبون في أن هذه آلهة، ويكذبون في أنها تملك شيئاً.
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ:٢٢] يعني: غير الله، وقد دعوتموهم وهم عباد مسخرون مقهورون ذليلون لا يملكون شيئاً.
{لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:٢٢] ومعنى ذلك: أنهم ليس لهم ملك القليل الحقير في الدنيا ولا في الآخرة، حتى في الدنيا ما يملكون شيئاً إلَّا أن يملِّكهم الله جلَّ وعلا إياه، أما إذا منعهم الله جلَّ وعلا فلا يستطيعون شيئاً، ثم هذا الملك الذي يملِّكهم إياه يُسلب منهم، فيذهبون إلى قبورهم وليس معهم شيء، ثم يخرجون من قبورهم إذا بعثهم الله جلَّ وعلا عندما يريد ذلك، وليس معهم شيء، ولا يملكون لأنفسهم شيئاً، ويأتون إلى الله جلَّ وعلا فرادى: ملوكهم ورؤساؤهم وأغنياؤهم، كلهم يأتي فرداً ليس معه لا ولد ولا خادم ولا صديق ولا مال ولا أي شيء، وإنما يأتي إلى الله فرداً ذليلاً خاضعاً، فكيف يشفع؟! ومن أين له ذلك؟! {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:٢٢] إذا كان المدعو لا يملك شيئاً فكيف يُدعى؟! هذا كلام الله جلَّ وعلا، وهو شامل لكل مدعو من دون الله، هذه الدرجة الأولى.
ثم الدرجة الثانية: أنه قد يقال: هم لا يملكون شيئاً ولكن يشاركون المالك، فنفى الله جلَّ وعلا ذلك، فقال: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:٢٢] يعني: ما لهم في السماوات والأرض من اشتراك مع المالك الذي هو الله جلَّ وعلا.
هذه الدرجة الثانية.
ثم قد يتصور متصور: أنهم إذا كانوا لا يملكون، وليس لهم اشتراك مع المالك فقد يكونون مقربين عنده أو يكونون مساعدين له، فنفى ذلك جلَّ وعلا فقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:٢٢] يعني: ليس للمالك منهم مظاهر يعني: مساعد ومعاون، فنُفي الملك، ونُفي الاشتراك، ونُفيت المساعدة، فماذا بقي؟ بقيت الشفاعة، فقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٣] وهذه الجملة تدل على شيئين: تدل على أن الشفاعة بلا إذن الله جلَّ وعلا باطلة ومنفية وغير واقعة.
وتدل على أن الشفاعة التي تكون بإذنه واقعة.
والشفاعة التي تكون بإذنه تكون لمن يرضى عنهم، والله جلَّ وعلا لا يرضى الشرك ولا يرضى عن المشرك، بل حرم الجنة على المشرك لما قال جلَّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:٧٢].
فتبين بهذا أن طلب الشفاعة من غير الله شرك، والمشرك محروم من ذلك.