للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دعاء الميت والاستشفاع به]

قال الشارح رحمه الله: [وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه، وليس خاصاً به صلى الله عليه وسلم، بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر لما أراد أن يعتمر من المدينة: (لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك).

وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك، وهذا هو الذي يشرع في حق الميت، أما دعاؤه فلم يشرع، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:١٣ - ١٤]، فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة، أي: ينكره ويعادي من فعله كما في آية الأحقاف: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٦] فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر].

قبل هذه الآية قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٥ - ٦].

يقول الله جل وعلا: قد ضل الفاعل هذا الفعل الضلال البليغ المتناهي: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:٥] يعني: أن الأموات من الحجارة وغيرها ما تستجيب دعوة الداعي إلا إذا حشر الناس وجمعوا فهناك تجيب وتكفر به وتقول: كفرت بك، ولهذا قال: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٦].

وبين أن هذا الدعاء عبادة، فالذي يدعو الميت ويذهب إلى قبره ويقول: يا فلان! اشفع لي أو أعطني كذا أو أنا في حاجتك أو ظلمني فلان فانتقم لي منه أو أريد ولداً أو أريد مالاً أو أريد نصراً على العدو أو ما أشبه ذلك فهذا ضال متناهٍ في الضلال، وما يفعله شرك بالله جل وعلا؛ لأنه دعا ميتاً لا يجيب ولا يستطيع أن يستجيب، فإذا كان يوم القيامة جُمع هذا الداعي ومن دُعي ويقول الله جل وعلا له: اذهب إلى من كنت تدعوه فليستجب دعاءك، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس إذا اجتمعوا يوم القيامة وجاء ربنا جل وعلا ليفصل بينهم يخاطبهم بخطاب يسمعونه ويقول لهم: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا، فكلهم يقولون: بلى يا رب! فيمثل لكل داعٍ ما كان يدعوه) فيمثل للذين كانوا يدعون الشمس الشمس، وللذين كانوا يدعون القمر القمر، وللذين كانوا يدعون الأصنام الأصنام، وأما الذين كانوا يدعون الأنبياء أو الأولياء فيؤتى بشياطينهم؛ لأن الشياطين هي التي أمرتهم بذلك، (فيقال لهم: اتبعوهم -أي: هؤلاء الذين تدعونهم اتبعوهم-.

فيذهبون بهم إلى جهنم، فيلقون في النار ويقتحمون في النار خلفهم) هذا حكم الله فيمن يدعو غيره، وكل الخلق يقر بأن هذا عدل من الله أن يولي الداعي ما كان يدعو، (أما المؤمنون فإنهم يبقون في ذلك الموقف -يبقون بعد ما ذهب من يدعو غير الله- فيأتيهم الله جل وعلا فيقول: ما الذي أبقاكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: إن لنا رباً ننتظره، وقد فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم) يعني: لما كنا نحتاجهم أما اليوم فلسنا بحاجة إليهم؛ لأنه لا أحد يغني عن أحد في ذلك اليوم، (فيأتيهم الله جل وعلا فيعرفونه فيتبعونه) لأنهم يعبدونه.

فالإنسان يتبع يوم القيامة معبوده: فإن كان يعبد شجراً يتبعه إلى جهنم، وإن كان يعبد ولياً أو نبياً فإنه يمثل له شيطان ذلك النبي أو الولي.

وقد أخبر الله جل وعلا عن ذلك في القرآن بقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨] ولما نزلت هذه الآية احتج بعض المشركين وقالوا: إذاً: نحن نعبد الملائكة، وهناك من يعبد عيسى ويعبد أمه! فأنزل الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:١٠١ - ١٠٢] فالرسول صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية وبينها، فقال: (إن من كان يعبد عيسى ومن كان يعبد عزيراً يأتيه شيطان عيسى وشيطان عزير) وكذلك الأولياء تأتي شياطينهم؛ لأن الشياطين هي التي أمرت بعبادتهم، وهي التي أمرت بدعائهم، فيتبع من كان يعبدهم شياطينهم.

فهذا معنى قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٥ - ٦] يعني: إذا جمعوا معهم صار المدعو عدواً للداعي مبغضاً له، كافراً بدعوته، يتبرأ إلى الله منه، سواء أكان هذا المدعو ولياً أم نبياً أم غير ذلك، فإن كل معبود يكفر بعابده.