للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الإقسام على الله]

قال رحمه الله تعالى: [قال المصنف رحمه الله: باب ما جاء في الإقسام على الله].

هذا أيضاً من جنس ما سبق، وهو مما يتعلق بالربوبية وبجناب الرب جل وعلا، وذلك أن الرب جل وعلا هو المالك لكل شيء، وليس لأحد معه تصرف ولا سلطة، فلا يجوز لمخلوق أن يقسم على الله ويقول: والله يا رب! إنك ستفعل كذا.

أو يقول لآخر: والله إن الله سيفعل بك كذا وكذا.

أو: إن الله سيعاقبك بكذا وكذا.

أو: إن الله لا يغفر لك.

أو: إن الله سيدخلك الجنة.

أو: سيدخلك النار أو ما أشبه ذلك، فهذا كله لا يجوز؛ لأن هذا في الحقيقة تدخل في شئون الرب جل وعلا، ولا يجوز للعبد أن يتدخل في شئون ربه، بل يجب أن يعرف قدره، وأن يعرف أنه عبد يتصرف الله جل وعلا فيه كيف يشاء، فعليه أن يعرف ذلك ويقف عند حده.

أما إن ذهب يتألى على الله ويحلف عليه ويقسم عليه فإنه في الحقيقة قد تعدى طوره وركب رأسه، فيوشك أن يأخذه الله جل وعلا ويعاقبه، هذا هو المقصود في هذا الباب.

ثم لا يرد على هذا أنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، وذكر منهم: البراء بن مالك، ولما وقع من الربيّع ما وقع عند أن كانت جارية صغيرة تلعب في الشارع وقع منها اعتداء فكسرت ثنية جارية أخرى، فجاء أهل الجارية المجني عليها إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكون فقال: (إن لم تعفوا فتكسر ثنية الربيع فقال أخوها: أتكسر ثنية الربيع؟ قال: نعم.

كتاب الله القصاص.

فقال: والله لا تكسر ثنية الربيع)، فرضي القوم بالصلح وقالوا: لا نريد القصاص.

عند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) فـ أنس بن النضر لم يقل: والله إني أقسم عليك أن لا تكسر ثنية أختي.

فإن مثل هذا قد يقوله الإنسان المخاصم أو الذي يجادل أخاه، فقد يقول: والله لا يصير هذا.

وهو يريد أن يفعل الأمور والأسباب التي يتخلص بها من هذا الشيء، ولا يريد التألي على الله.

وكذلك ورد أن الصحابة إذا كانوا في قتال يقولون للبراء بن مالك رضي الله عنه: أقسم على ربك أن ينصرنا، فكان يقول: (يا رب! أقسم عليك أن تمنحنا أكتافهم) فينصرون، وفي آخر مرة طلبوا منه ذلك وألحوا عليه فقال: (يا رب! أقسم عليك أن تمنحنا أكتافهم وتجعلني أول قتيل من المسلمين) فنصروا وانهزم العدو، وصار هو أول قتيل قتل، فهذا ليس معناه أنه يتعدى على الله ويدل عليه، وإنما كان يثق بربه ويسأله سؤالاً جازماً، وصورته صورة الإقسام فقط، أما أن يقسم قسماً يريد من الله أن يفعل هذا الشيء للتأكيد فهذا لا يجوز بحال من الأحوال؛ لأن الله جل وعلا هو الذي يتصرف بخلقه, وكل خلقه ملك له.

ومن المسلّم به عند كل مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق، وأعلم الناس بالله وأتقاهم وأخشاهم، وهو كذلك أقربهم وأحبهم إلى الله جل وعلا، ومع ذلك لما صارت وقعت بدر كان يجتهد بالدعاء والابتهال، وكان الصحابة كلهم قد ناموا في الليل إلا هو صلوات الله وسلامه عليه فإنه بات قائماً يتهجد ويصلي ويدعو، حتى كان في آخر الليل فصار يلح إلحاحاً بليغاً ويرفع يديه ويقول: (يا رب! وعدك الذي وعدتني يا رب! إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم في الأرض) حتى رحمه أبو بكر رضي الله عنه، وقد سقط رداؤه من على كتفيه لشدة إلحاحه ورفعه يديه، فأخذ أبو بكر رداءه ووضعه على كتفيه والتزمه وقال: (يكيفك مناشدتك ربك)، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاز عنده أن الله جل وعلا يسلط الكفار على المسلمين؛ لأنهم كلهم ملكه وعبيده، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تعبد بعد اليوم) أي أن الإسلام سيمحى كله، فلا يجوز لإنسان أن يدل على الله إدلال الواثق الذي يقسم بأنه يصير كذا وكذا، بل يجب أن يكون خاضعاً لله ذالاً له؛ لأن كل شيء ملك لله، ولهذا السبب لما ذكر الله جل وعلا الجنة وأهلها قال: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:١٠٨]، ولماذا جاء هذا الاستثناء ((إلا ما شاء ربك))؟ لئلا يطمعوا أن يكونوا مشاركين لله في البقاء والخلود دائماً أبداً، بل الأمر كله بمشيئة الله، لو شاء لأزال ذلك، فالأمر بيد الله جل وعلا.

وكذلك إذا كان الإنسان يقرر مسألة من مسائل الشرع ثم رأى غيره مخالفاً له فصار يتهدده ويتوعده ويقول: لك النار، وسوف يأتيك كذا وكذا.

أو يحلف له بأنه يحصل له كذا وكذا فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا تألٍ على الله، فكلاهما من عباد الله، والله هو الذي يحكم بينهما، وإنما على الإنسان أن يسلك أمر الله الذي أمره ولا يتعداه.

أما الحكم في العباد ومآلهم وعذابهم أو إثابتهم فهو إلى الله جل وعلا.