للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب التسليم لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم]

قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض) معنى (زوى) يعني: أنه جمعها فأصبحت أنظر إليها كأنها أمامي، أنظر إلى أقصاها وأدناها سواء، ولا يلزم أن تكون كل جزئية من الأرض أمامه ينظر إليها، وهذا من قدرة الله جل وعلا التي لا حدود لها، فهو على كل شيء قدير، ولا يجوز أن نقيد قدرة الله بالعقل أو بالفكر والنظر، وإذا كنا لا نستوعب ذلك ولا نستطيع أن ندركه بعقلنا لا نكذب به، بل هذا شأن الذين يعبدون عقولهم أو يكونون مغرورين بعقولهم ويقولون: إن الشيء الذي يخالف العقل يجب أن يرد.

الرسل لا يأتون بشيء يخالف العقول، ولكنهم يأتون بأمور تحار فيها العقول ولا تدركه؛ لأن العقول قاصرة بالنسبة لأمر الله جل وعلا، وخلقه وتدبيره، وقدرته ومشيئته، وهذا نظير قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما قام يصلي صلاة الكسوف بمسجده صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (عرضت علي الجنة والنار دون هذا الحائط -يعني: دون حائط المسجد- فرأيت بعضها يحطم بعضاً، حتى خشيت أن تأتي عليكم، فقلت: يا رب! وأنا فيهم؟ -يعني: أنها تأكلهم وأنا فيهم- ثم عرضت علي الجنة يقول: فهممت أن آخذ منها قطفاً حينما رأيتموني تقدمت، ثم بدا لي ألا أفعل، ولو أخذت ذلك منها لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) قطف يعني: عنقود عنب، عنقود واحد لو أخذه لأكلت منه الأمة ما بقيت الدنيا؛ لأن الذي في الجنة لا ينتهي، بل يتبدل، كلما يؤخذ منه شيء جاء مكانه غيره دائماً.

وقال: (رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار -يعني: أمعاءه- لأنه أول من غير دين إسماعيل)، وقد كان رئيساً في العرب، ومات في الجاهلية قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (ورأيت امرأة في النار بسبب هرة حبستها حتى ماتت، لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض، فرأيتها تخمش وجهها في النار) وهذا أمر حقيقي، وكون الجنة والنار دون هذا الحائط شيء لا تستوعبه العقول، ولكن يجب أن نصدق به.

ومثله الحديث الذي مر معنا في الدعوة إلى التوحيد، وقوله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر إلى الأفق فرأيت وجوه الرجال قد سدت الأفق، ثم قيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فرأيت وجوه الرجال قد سدت الأفق، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب) فهذا العرض على ظاهره، ولكن ليست هي أعيان الناس بأنفسهم، الناس أموات في قبورهم.

ومثل ذلك ما وقع له في قصة الإسراء والمعراج لما وصل إلى بيت المقدس، واجتمع بالأنبياء وصلى بهم، ثم لما صعد إلى السماء وجد كل نبيٍ في سماء من السماوات حسب منازلهم، وهذه أرواحهم لا إشكال في هذا، وهذه كلها أمور حق على ظاهرها، يجب أن نؤمن بها، ونصدق بها كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه إذا قال كلاماً باللغة التي يفهمها المخاطبون فإنه يبلغ عن الله جل وعلا، ولو لم يكن الظاهر هو المراد ما كان هناك تبليغ، ولا سأل السامعون وقالوا: هو هذا المعنى أو هناك غيره؟ فلما سكتوا وفهموا النص على ظاهره دل أن هذا هو المراد قطعاً بلا تردد، ولا يجوز أن يشكك في هذا الشيء.