[كفالة عبد المطلب للنبي صلى الله عليه وسلم وحفره لزمزم]
ما ذكر الشارح من حمل الرسول صلى الله عليه وسلم وولادته، وكذلك وفاة أبيه ووفاة أمه، هو مختلف فيه بين أهل التاريخ والسير، ولكن من المتفق عليه أنه توفي والده وهو صغير، سواء كان حملاً أو بعدما كان له سنتان وستة شهور أو نحو ذلك، وكذلك والدته اختلفوا في عمره وقت وفاتها، فقيل: إنه بعدما بلغ أكثر من ست سنوات، وقيل: بعدما بلغ أربع سنوات، ومن المعلوم أن الذي كفله بعد وفاة والده هو عبد المطلب، ثم بعد ذلك جعله إلى عمه أبي طالب، وأبو طالب هو عمه، وعبد المطلب هو جده.
ثم ذكر أنه هو الذي حفر زمزم، فكانت زمزم قد دفنت، ولم يعلم أين هي، فحفرها بعدما رأى رؤيا، كما هو معروف، فاستخرجها وصارت تنسب إليه، وصار هو أحق بها، ولهذا صارت سقاية الحاج في ذريته، وإلا فزمزم قديمة جداً، ظهرت بجبريل عليه السلام لما وضع إبراهيم صلى الله عليه وسلم هاجر أم إسماعيل في ذلك المكان وليس فيه أحد، وولى منصرفاً إلى الشام، تركها مع ابنها وصارت تناديه: يا إبراهيم! لمن تتركنا هاهنا وتذهب؟ وهو لا يلتفت إليها ولا يكلمها، فلما رأت ذلك قالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، فرجعت وقالت: إذن لا يضيعنا الله، وصارت ترضع ابنها حتى نفد ما معها من ماء وطعام، فعطش الابن ثم أدركه الموت، فكرهت أن تنظر إليه وهو يموت، فنظرت إلى أقرب مرتفع إليها وهو جبل الصفا الذي هو أسفل جبل أبي قبيس، فصعدت عليه لعلها ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت وقصدت المروة لتصعد عليه لعلها ترى أحداً؛ لأنها في كرب، فلم تر أحداً، فعلت ذلك سبع مرات، وكانت إذا وصلت الوادي تسعى سعي المجهود، وفي الأخير سمعت صوتاً، فالتفتت ونظرت فلم تر أحداً، ثم قالت: لقد أسمعت فأغث إن كان عندك غوث، فنظرت فإذا برجل عند الصبي، فذهبت إليه وإذا هو جبريل عليه السلام، فقال لها: لا تخافي فإن هذا الصبي سيبني مع والده بيتاً لله جل وعلا في هذا المكان، فبحث الأرض بطرف جناحه، فنبع الماء، وصار عيناً جارية، فصارت تحجره بالتراب فوقف، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركته لصار عيناً معيناً) يعني: لأصبح عيناً تجري، ولكنها حجرته فاحتجر، فهذا أول مبدأ زمزم، وهذا قديم من زمن إبراهيم عليه السلام.
والمقصود: أن حفر عبد المطلب لزمزم كان بعد فترة طويلة جداً من وجودها؛ لأنها دفنت لما حصلت الحروب بين جرهم وبين قريش وغيرهم.
ثم إن هذا التعبيد الذي لا يجوز أن يعبد لمخلوق لا يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أثبت ذلك وقال: (أنا بن عبد المطلب)؛ لأن هذا من باب الخبر عن شيء واقع ماضٍ ولا يمكن تغييره، وهو من باب النسب، والنسب ذكر في النص على ما هم عليه في أنسابهم.
وأما قوله كما في صحيح البخاري: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة) فهذا ليس إقراراً لعبودية الدينار والدرهم والخميلة والخميصة ولكنه إنكار لذلك، وإخبار بأنه ستناله التعاسة والشقاء، فلا يكون دليلاً على أن الإنسان يعبد لغير الله جل وعلا؛ لأن هذا خرج من باب الذم والتحذير، كما أنه وصف لمن يقوم به، فالذي يعبد الدينار والدرهم لا يسجد له ولا يركع له ولا يدعوه، ولكنه يعمل من أجله، فيكون عمله له، فلهذا سمي عبداً له.
فالمقصود: أن هذا من باب الذم والتحذير من هذا الفعل، وهو يقع في كثير من الناس، وكثير من الناس يعبد الشيطان فضلاً عن عبادة الدرهم والدينار.
ولا يجوز أن يُعبّد المخلوق لمخلوق، بل يجب أن تكون العبودية لله مطلقاً.
قوله: (حاشا عبد المطلب): هذا استثناء من العموم، وذلك لأن تسميته بهذا الاسم لا محذور فيه؛ لأنه مأخوذ من عبودية الرق، والمعنى: أن (عبد المطلب) لم يتفقوا على أنه من التعبيد المحرم، وليس معنى ذلك أنه جائز، بل المعنى: أن فيه خلافاً؛ لما ذكر أن السبب في التسمية هو أنها من باب عبودية الرق، كما ذكر أنه قدم به من المدينة مردفاً له خلفه على راحلته وقد أصابته الشمس وتغير لونه، فظنوا أنه مملوك أو أنه اشتراه، فقالوا له ذلك، ثم نسي اسمه (العلم)، وهو (شيبة)؛ وقد سمي بذلك لأنه لما ولد وجد في رأسه شعرة بيضاء فسمي: شيبة.
وقد ذكر بعض العلماء: أن في الصحابة من اسمه عبد المطلب ولكن هذا غير صحيح، والصواب: أن هذا خطأ ممن نقله، والصواب: أنه المطلب، ففيهم: المطلب بن حاطب بن حنظل، أما عبد المطلب فليس موجوداً، أي: ليس في الصحابة من اسمه: عبد المطلب.
أما ما جاء في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي طلق زوجته ألبتة فسمي: (عبد ركانة)، فهو ليس هكذا بالإضافة وإنما هو بالتنوين، فلا يكون من باب العبودية.