للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مدعي الولاية ليس بولي]

قال الشارح رحمه الله: [وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف.

وقال أيضاً: والمنجم يدخل في اسم العراف وعند بعضهم هو معناه.

وقال أيضاً: والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء، وحكي ذلك عن العرب.

وعند آخرين: هو من جنس الكاهن، وأسوأ حالاً منه، فيلحق به من جهة المعنى.

وقال الإمام أحمد: العرافة: طرف من السحر، والساحر أخبث.

وقال أبو السعادات: العراف والمنجم والحازر: الذي يدعي علم الغيب، وقد استأثر الله تعالى به.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه: عائفاً وعرافاً.

والمقصود من هذا: معرفة من يدعي معرفة علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية.

ونعني بالجاهلية: كل من ليس من أتباع الرسل عليهم السلام كالفلاسفة والكهان والمنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذه علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل صلوات الله عليهم.

وكل هذه الأمور يسمى صاحبها: كاهناً وعرافاً أو في معناهما، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد، وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وادعوا أنهم أولياء، وأن ذلك كرامة.

ولا ريب أن من ادعى الولاية واستدل بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، إذ الكرامة أمر يجريها الله على يد عبده المؤمن التقي إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها، بخلاف من يدعي أنه ولي ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، فإن هذه الأمور قد تحصل لما ذكرنا من الأسباب، وإن كانت أسباباً محرمةً كاذبةً في الغالب.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان: (فيكذبون معها مائة كذبة) فبين أنهم يصدقون مرةً ويكذبون مائة.

وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دعواه دليل على كذبه؛ لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:٣٢]، وليس هذا من شأن الأولياء، فإن شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها، وخوفهم من ربهم، فكيف يأتون الناس ويقولون: اعرفوا أننا أولياء، وأنا نعلم الغيب؟! وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور.

وحسبك بحال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وهم سادات الأولياء، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟ لا والله! بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كـ الصديق رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده من الليل فيمرض منها ليالي يعودونه، وكان تميم الداري يتقلب على فراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلاً خوفاً من النار ثم يقوم إلى صلاته.

ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله تعالى في صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنون والفرقان والذاريات والطور، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء، لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر].

قوله: (كان يمر بالآية في ورده فيمرض فيعاد) هذا غير صحيح، ولم يثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم: أن أحدهم إذا سمع آيةً يصعق أو يغشى عليه أو يمرض، بل كان الإيمان في قلوبهم أمثال الجبال، وكانت خشية الله وخوفه عندهم متأصلة، ويتأثرون بذلك كما يتأثر من جاء بعدهم، فالصحيح أنه لم يثبت ذلك عنهم.

وأما كونهم يبكون فهذا ثابت عنهم، وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه قرأ في صلاة الفجر سورة يوسف فلماء جاء إلى قوله جل وعلا: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٦] صار له نشيج يُسمع من خلف الصفوف يعني: أنه رأى أنها تنطبق عليه.

وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في سجود وفي قراءته يُسمع في صدره أزيز.

أما البكاء بالصوت ورفعه كما يقع لبعض الناس بكاء وصراخ فهذا ما كان يحدث عندهم، وليس هذا من طريقة المؤمنين، بل كانت أعينهم تدمع، وقلوبهم تخشع، أما التصويت والنشيج والبكاء الذي يكون بأصوات فما كان يحدث لهم، فضلاً عما ذكر من أنه يمرض أحدهم، كل هذا لم يحدث لأحد منهم، وإنما هذا وقع في المتأخرين من التابعين وأتباعهم، وربما بعضهم إذا سمع آية يصعق ويموت.

وقد ذكر أن إنساناً قرأ عند أحد الخائفين آيةً من كتاب الله فصار له صراخ حتى فقد الحركة، فنظروا إليه فإذا هو قد مات، وهذا كثر في أتباع التابعين، أما في الصحابة فلا وجود له.

ولا شك أن الصحابة أكمل الناس إيماناً، وأتمهم علماً، وأزكاهم عقولاً، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس من بعثت فيهم)، وقال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وكان يحذر صلى الله عليه وسلم من الكلام في الصحابة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الله الله في أصحابي! لا تتخذونهم غرضاً بعدي)، وكان يوصي بحفظ سابقتهم وحفظ ما لهم عند الله جل وعلا.

وكذلك ربنا جل وعلا وصف الذين يأتون من بعدهم أنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:١٠].

وأخبر جل وعلا أن الذي يغيظه شأن الصحابة ليس من المؤمنين كما قال جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إلى أن قال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:٢٩] يعني: أن أفعالهم تغيظ الكفار.

ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: (من غاظه شأن الصحابة فليس له نصيب من الفيء؛ لأنه ليس من المؤمنين).

فالواجب أن يعرف حقهم؛ لكون الرسول صلى الله عليه وسلم رباهم، وكونهم أخذوا العلم عنه، وجاهدوا بين يديه، ونشروا الدين الإسلامي، وعن طريقهم جاءنا الدين، وما عرفنا الإسلام إلا عن طريقهم؛ لأنهم هم الذين نقلوا إلينا ما بلغهم إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه الله: [فكيف يكون المدعي لذلك ولياً لله؟! ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذي ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش القلوب، نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة].