للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب العمل بما دلت عليه كلمة الإخلاص]

قال الشارح رحمه الله: [قلت: وهذا هو الشرط المصحح لقوله: لا إله إلا الله، فلا يصح قولها بدون هذا الخمس التي ذكرها المصنف رحمه الله أصلاً، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:١٩٣] وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:٥] أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك، ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعاً.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)].

وهذا أيضاً من أعظم ما يبين شهادة أن لا إله إلا الله ويشرحها ويوضحها إذ إن المقصود ليس مجرد التلفظ بها، فالتلفظ بلا عمل لا يفيد شيئاً.

وإنما المقصود العمل بمعناها الذي دلت عليه، ومعناها: هو أن يكون التأله كله لله، وتكون العبادة لله وحده، ولا يكون شيئاً منها لغيره، فإن وجد من الإنسان عبادة لغير الله جل وعلا فهو لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله.

وقد علم أن المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعث بلسانهم، وجاءهم بلغتهم؛ أنهم طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم مطالب منها: أن يسكت عنهم، ولا يقدح في دينهم وفي دين آبائهم، ويسكتوا عنه، وما يتعرضوا له بشيء، فأبى صلوات الله وسلامه عليه ذلك، وذكر أنه لا بد من بيان فساد دينهم والتبرؤ منه، والكفر به، وبغضه، ومعاداته، ومعاداة أهله، فلا بد من ذلك، الله جل وعلا يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:٢٢]؛ لأن هذا من معنى لا إله إلا الله.

وأخبرنا ربنا جل وعلا أن لنا أسوة في إبراهيم والذين معه، فإبراهيم تبرأ من قومه وما يعبدون، واستثنى من ذلك ربه جل وعلا فقال: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:٢٦ - ٢٧] يعني: الذي خلقني، وهو الله، وهذا يدل على أن قوم إبراهيم يعبدون الله، ويعبدون معه غيره، فتبرأ من المعبودات غير الله، واستثنى ربه جل وعلا؛ لأنه هو الذي يجب أن تكون له العبادة وحده.

وكل الأنبياء جاءوا بهذا الأمر، يدعون قومهم إلى أن يخلصوا عبادتهم لله وحده.

والشأن في معرفة العبادة ما هي؟ ومعرفة الإله ما هو؟ وما معنى الإله في اللغة؟ فالإله هو الذي يؤله ويعبد، كل ما ألهه القلب بالحب والخوف والذل فهو إله، فيجب هذا أن يكون لله وحده.

والعبادة أنواعها كثيرة جداً، منها الدعاء، ومنها الذبح، ومنها النذر، ومنها طلب البركة، ومنها الخوف والرجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة، وكلها يجب أن تكون لله وحده، وكلها دلت عليها كلمة لا إله إلا الله، فلا إله إلا الله دلت على أن العبادة يجب أن تكون لله وحده، فإذا وجد شيء من العبادة لغير الله فإن الإنسان لم يأت بالعبادة لله، فالذي يقول ذلك أو يفعله لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله، ولم يصحح إيمانه، بل لم يدخل في الإسلام وإن زعم أنه مسلم؛ لأن الإسلام كلٌ لا يتجزأ، إذا وجد بعض منه وبعض تخلف فكأنه لم يأت بشيء، فالله هو أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معه شيئاً من المخلوقات فإنه يكون لذلك الشريك، والله بريء منه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك.

قال الشارح: [وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)].

حق لا إله إلا الله هو كل واجب جاء به الرسول، كل ما وجب في دين الإسلام فهو من حق لا إله إلا الله، وإذا ترك الإنسان الواجب فمعنى ذلك أنه يقاتل حتى يأتي به سواء الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك، بل حتى ولو ترك قوم الأذان الذي هو من الأمور الكفائية في الشرع، فلو اتفق أهل بلد على ترك الأذان فإنهم يقاتلون حتى يلتزموا ذلك ويأتوا به باتفاق العلماء؛ لأن هذا من حق لا إله إلا الله، فليست المسألة مجرد قول لا إله إلا الله، ثم يصبح الإنسان يفعل ما يريد كما يغتر بذلك كثير من الجهال، ويظنون أن من قال: لا إله إلا الله فهو موعود بدخول الجنة ويكفي، وقد يترك الصلاة وقد يترك الصوم، وقد يعبد غير الله، بأن يتعلق بالمقبورين، ويسألهم النفع ودفع الضر، أو يتبرك بقبورهم، أو يقدم لهم النذور أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا من الشرك الأكبر الذي ينافي قول لا إله إلا الله، وسبب وقوع ذلك هو جهل الإنسان بمعنى لا إله إلا الله، وكذلك جهله باللغة التي خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ولو عرف ذلك لفهم؛ لأنه من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال للمشركين: لا إله إلا الله، أبوا ونفروا، وليس المراد عرفوا أنه ليس المراد مجرد التلفظ بها، بل قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥]، و {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [الأعراف:٧٠]، لأنه كان يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩].

وهكذا جميع الرسل جاءت بهذا، فلا خير في إنسان مسلم يكون الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله، يجب أن يكون عالماً بمعناها وما دلت عليه، وكذلك بما ينافيها ويناقضها أو ينقص ما دلت عليه من توحيد الله جل وعلا.

الإنسان إذا ما عرف الشر لم يعرف الخير، والأمور قد تتبين بأضدادها، فاعتماد هذا الأمر مهم جداً على المسلم، لأن الله جل وعلا أخبرنا أن الإنسان إذا مات على الشرك فهو غير مغفور له، ويجوز للإنسان أن يقع في شيء يظنه عبادة مرضية لله وهي شرك، يجوز أن يقع الإنسان في مثل هذا إذا لم يتعرف على الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا خسر الإنسان نفسه، ومعنى ذلك أنه هلك الهلاك الذي لا يرجى معه سعادة أو صلاح أبداً.

ليست المسألة مجرد ذنب من الذنوب، إذا كان الإنسان لا يعبد إلا الله فأمر الذنوب سهل، ولكن المشكل أن يقع الإنسان في الشرك؛ لأن الشرك قطع الله جل وعلا رجاء من وقع فيه نهائياً إذا مات عليه، وأخبر أنه يكون خالداً في النار وما هو بخارج منها، وأن الجنة عليه حرام، إذا كان الأمر هكذا فإن من أشد ما يتعين على الإنسان ويجب عليه أن يعتني به ويتعرف عليه؛ الشرك وأنواعه وأقسامه حتى يتجنبه، وبضدها تتبين الأشياء.

ولهذا لما كان الصحابة رضوان الله عليهم قد عرفوا الشرك تماماً صاروا من أبعد الناس عنه، وصاروا يبغضون الشرك أشد البغض، وينفرون منه أشد النفرة، بخلاف الذي يجهله، فإنه قد يقع فيه ويظنه عملاً صالحاً، كما وقع فيه كثير من الناس، بل وقع فيه بعض خواص الناس ممن يفسر كتاب الله ويشرح حديث رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بسبب البعد عن عهد النبوة، والجهل باللغة، وإلف الشيء الذي وجد عليه الآباء والأجداد وأهل البلد، فيستبعد أن يكون هذا شركاً فيقع فيه، والإنسان لا يعذر بذلك، لا يقال: إنه جاهل؛ لأن الله جل وعلا قطع الحجة وقطع العذر بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن، يقول جل وعلا: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:١٩] فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة؛ لأن عليه أن يتعرف على معانيه وما دل عليه، وليس المراد منه أن يقرأه مجرد ألفاظ يتلوها وما يدري ماذا تدل عليه، فهذا لا يجدي شيئاً، ولا يفيد شيئاً، وليس هذا مطلوباً {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:٨٢]، فالقرآن أنزل للتدبر والعمل.

ويجب على الإنسان أن يعتني بهذه الأمور كثيراً؛ ولهذا نرددها ونكررها لأهميتها، وعظم الحاجة إليها.