للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث: (الطيرة شرك)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود مرفوعاً: (الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل)، رواه أبو داود والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود].

قوله صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك! الطيرة شرك)، التكرار هنا للتأكيد والمبالغة في البلاغ، وذلك يدل على أن الطيرة كانت منتشرة في الناس في ذلك الوقت، فلهذا بالغ الرسول صلى الله عليه وسلم في النهي عنها، وأخبر أنها شرك، والشرك معلوم عند المخاطبين أنه أكبر الذنوب، وقوله: (شرك) مطلق، قد يكون شركاً أكبر، وقد يكون أصغر، وتبين فيما سبق التفصيل في هذا وهو أن الإنسان إذا كان يعتقد أن فعل الطيرة هو الذي يكون فيه الخير، أو مثلاً نعيقه، أو أن الخير معلق بظهور الحيوان، فهذا من الشرك الأكبر، أما إذا كان يعتقد أن الله جعله سبباً لذلك فهذا يكون من الشرك الأصغر.

وقوله: (ما منا إلا)، يعني: ما منا أحد إلا ويقع في نفسه شيء عندما يسمع شيئاً من ذلك (ولكن الله يذهبه بالتوكل)، يذهب هذا الشيء الذي يقع، وحذف المقدر لعلمه به، وليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع في نفسه شيء؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أعظم الناس إيماناً وتوكلاً على الله، ولكن هذا من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، ولهذا بين الترمذي رحمه الله أن هذا مدرج، وأنه من كلام ابن مسعود، (وما منا إلا) أي: يقع في نفسه شيء من ذلك، غير أنه لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، وإنما يعرض عنه ويتوكل على ربه، فيذهب الله جل وعلا ذلك الذي يقع بالتوكل عليه، وعدم الالتفات إلى غيره، هذا هو معنى الكلام.

قال الشارح رحمه الله: [وروى ابن ماجة وابن حبان ولفظ أبي داود: (الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك) ثلاثاً.

وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك؛ لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى، قال ابن حمدان: تكره الطيرة، وكذا قال غيره من أصحاب أحمد].

قوله: (تكره الطيرة) يجب أن تحمل كلمة (تكره) على التحريم؛ لأن الشرك ليس فيه شيء مكروه كراهة تنزيه، بل كله محرم، والعلماء في القديم إذا قالوا: يكره كان مقصودهم أنه حرام، ولكن بعضهم يتورع عن كلمة حرام للخوف؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:١١٦]، يخاف أن يقول: حرام، فلا يقول على الشيء أنه حرام إلا إذا تأكد تأكداً تاماً بأن الله قد حرمه، هذا هو السبب، وكان في اصطلاحهم أيضاً أن وضع الكراهة على المحرم أمر شائع، وإنما اصطلح المتأخرون على تقسيم الكراهة إلى قسمين: قسم يكون كراهة تحريم، وقسم يكون كراهة تنزيه, وهذا اصطلاح حادث ما كان يعرفه السلف قديماً، ولا يجوز أن يحمل كلام العلماء في القديم على هذا الاصطلاح الحادث.

قال الشارح رحمه الله: [قال ابن مفلح: والأولى القطع بتحريمها لأنها شرك، وكيف يكون الشرك مكروهاً الكراهية الاصطلاحية؟! قال في شرح السنن: وإنما جعل الطيرة من الشرك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الطيرة تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً إذا عملوا بموجبها، فكأنهم أشركوا مع الله تعالى.

قوله: (وما منا إلا)، قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري: في الحديث إضمار، والتقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك.

انتهى، وقال الخلخالي: حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة، وهذا من أدب الكلام.

قوله: (ولكن الله يذهبه بالتوكل)، أي: لكن لما توكلنا على الله في جلب النفع أو دفع الضر أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده.

قوله: (وجعل آخره من قول ابن مسعود)، قال ابن القيم: وهو الصواب، فإن الطيرة نوع من الشرك].