[معنى الشهادتين]
ثم يضاف إلى شهادة التوحيد ووجوب التشهد بها شهادة أن محمداً رسول الله.
ومعناها: أنه رسول من عند الله جاء بالدين الذي يلزم كل إنسان قبوله والعمل به، وأنه ليس هناك طريق يسلك إلى الله جل وعلا إلا ما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الطرق الأخرى سواءٌ أزعم أنها موروثة عن الأنبياء وأنها وحي أوحي به إليهم أم لا، كلها يجب مجانبتها وتركها، واتباع محمد صلوات الله وسلامه عليه الذي هو خاتم الرسل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والله لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) موسى عليه السلام كليم الله لو كان حياً موجوداً لاتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو خاتم الرسل الذي بعث للخلق كلهم.
فمعنى شهادة أن محمداً رسول الله: العلم اليقيني بأنه رسول من الله جل وعلا، أوحى إليه شرعه، وأكرمه بذلك، وهو عبد يعبد الله جل وعلا، ليس له من الإلهية ولا من الربوبية شيء، وإنما قام بعبادة الله جل وعلا حسب أمر الله جل وعلا، وألا يُعبد الله جل وعلا إلا بما جاء به صلوات الله وسلامه عليه.
هذا هو معنى: (أشهد أن محمداً رسول الله) رسول أوحي إليه بالشرع، كلف الناس بطاعته وتوقيره وتعظيمه واتباعه في ذلك، وألا نعبد الله جل وعلا إلا بما جاء به عن الله، وكل ما يقوله ويأمر به من الرسالة التي أرسل بها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:٣ - ٥] الذي هو جبريل عليه السلام هو الذي جاءه بالوحي.
ثم هذا ليس خاصاً بأهل الكتب، فهذا يُدعى به الناس كلهم، ولكن هذا يدل على أنه لا يقبل من إنسان يريد الدخول في الإسلام حتى يتلفظ بهاتين الشهادتين، والتلفظ يلزم منه أن يعلم معناهما، فيعرف معنى الشهادتين، ويعلم أن التلفظ بغير معنى يتضمنه الكلام لا يفيد شيئاً، فيكون شبه هذيان، وشبه كلام النائم السكران الذي لا يعقل ما يقول.
ومعلوم أن الكلام: اسم للفظ والمعنى، والكلام لا يكون في للفظ دون المعنى، ولا للمعنى دون اللفظ، وهذا هو الحق الذي دل عليه كتاب الله ولغة العرب، وكذلك إجماع أهل الحق على هذا، ولهذا لابد من معرفة هاتين الشهادتين حتى يكون الإنسان مسلماً حقاً، أما إذا نطق بهما وهو لا يعرف معناهما فيحكم له بالإسلام ظاهراً، وأما الباطن فإن كان لا يعرف معناهما ولا يعمل بهما فليس بمسلم، ولا بد من معرفة معناهما والعمل بهما، فإذا فعل ذلك وجب عليه قبول كلما جاء به الرسول، والالتزام بالصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأوامر التي أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ينبغي اجتناب ما نهى عنه، فإن فعل ذلك فهو من المؤمنين المتقين السعداء في الدنيا والآخرة، وإن كان على ظاهره وترك بعضها، والتزم ببعضها فأمره إلى الله جل وعلا إن شاء آخذه وعذبه، وإن شاء عفا عنه، إلا أنه لا بد من شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامة الصلاة.
أما البقية التي هي أداء الزكاة وصوم رمضان والحج فالكلام فيها يختلف عن هذا؛ لأن الزكاة أمر يتعلق بذمة الإنسان وبماله الظاهر الذي يرى ويشاهد، أما المال الباطن الذي لا يعلمه إلا صاحبه فهذا إليه، إن كان عنده إيمان وتقى ومخافة من الله دفع زكاته، وإن لم يفعل ذلك فالله الذي يحاسبه، إلا أنه يجب على الإمام -إمام المسلمين- إذا كان ظاهر الإنسان الإسلام، وله أموال ظاهرةٌ فيجب عليه أن يأخذ الزكاة منه، فيضعها حيث أمر الله جل وعلا كما سيأتي، أما الأموال الباطنة فموكولة إلى إيمان الإنسان نفسه.
وأما الصوم وهو ركن من أركان الإسلام كما هو معلوم فهو موكول إلى إيمان الإنسان وأمانته، إن كان عنده أمانة وإيمان صام، وإلا لم يفعل.
فالصيام بين العبد وبين ربه جل وعلا؛ لأن الإنسان يمكن أن يظهر أمام الناس أنه صائم، وهو يأكل ويشرب ويفعل ما يريد، ويذهب إلى البيت أو إلى أي مكان ويفعل ما يشاء، ولا يراقبه إلا الله، ولهذا السبب لم يذكر الصوم في هذا الحديث، وفي بعض الأحاديث لم يذكر في الأركان.
وأما الحج فالحج له أمر آخر، وهو أنه لا يجب على كل أحد، وإنما يجب على المستطيع القادر، وكذلك هو لا يجب في كل عام، وإنما يجب في العمر مرة، فإذا كان كذلك فليس كبقية الأركان.
ولهذا السبب أيضاً لم يذكر الحج في هذا الحديث، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء في كون الصوم والحج لم يذكرا في هذا الحديث، وليس كما يقول بعضهم: إن بعض الرواة اختصر الحديث.
لأن هذا طعن برواة الحديث، ولو قبل مثل هذا الطعن لأمكن لكل مبطل أن يقول: هذا الحديث مختصر، وهذا محذوف منه كذا ومزيد فيه كذا، وما أشبه ذلك.
وإنما الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر عندما يذكر أركان الإسلام فيقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)، وكذلك إذا سئل عن الإسلام فإنه يذكر أركان الإسلام كاملة، وإذا ذكر الإيمان ذكر أركان الإيمان كاملة، أما إذا جاء الأمر ويترتب على الأمر القتال أو الحكم بالإسلام أو الضلال فإنه يذكر ذلك حسب ما يناسب المقام؛ لأن الخطاب بالصوم ليس لكل أحد، وهو أمانة بين العبد وبين ربه، فمثلاً الحائض لا يلزمها الصيام، وإنما تقضي أياماً بعدما يزول المانع، وكذلك المسافر لا يلزمه، وإنما يقضي أياماً بعد زوال المانع، وكذلك الكبير الذي لا يستطيع الصوم لا يلزمه، وإنما يفطر ويأكل ويطعم بدل كل يوم مسكيناً، وكذلك الحامل إذا خافت على ولدها فإنه لا يلزمها، فإنها تأكل ثم تطعم وتصوم، وكذلك المرضع، وهكذا.
بخلاف الصلاة؛ فإن الإنسان ما دام فيه عقله وما دام قد كلف لا تسقط عنه الصلاة بحال من الأحوال، سواءٌ أكان صحيحاً أم مريضاً، وسواءٌ أكان يستطيع أن يجلس أم لا يستطيع الجلوس، يستطيع القيام أم لا يستطيع، فيجب عليه أن يصلي حسب حاله، ولا تسقط الصلاة بحال من الأحوال.
وكذلك شهادة ألا إله إلا الله، شهادة التوحيد، وشهادة أن محمداً رسول الله ملازمة دائماً للقلب والعلم، وكذلك الاعتقاد، يعتقد ذلك، فتلازمه دائماً وأبداً لا تسقط بحال من الأحوال.
وبهذا يتبين الفرق بين هذه التي يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر الأحاديث وبين الأركان التي قد لا يذكرها في بعض الأحاديث، وليس الأمر كما قيل: إن ذكرها وعدم ذكرها حسب تنزل الفرائض.
ففي أول الأمر نزلت الصلاة، ثم بعد ذلك الزكاة، فصارت تذكر الصلاة ثم تذكر الزكاة، ثم بعد ذلك الصوم، وقد مر معنا أن الصوم فرض في السنة الثانية للهجرة، أي: فرض في المدينة، بخلاف الصلاة فإنها فرضت قديماً في مكة.
وأما الحج فقد اختلف فيه كثيراً، وقد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في السنة العاشرة السنة التي توفي فيها صلوات الله وسلامه عليه، وبهذا يتبين الفرق، ولكن ليس الأمر كما يقول هذا القائل: أنه حسب تنزل الفرائض، وإنما الصواب هو ما ذكرنا من الفرق أن الشهادتين والصلاة تلازم المسلم دائماً وأبداً، ولا تنفك عنه بحال من الأحوال ما دام عقله معه وما دام مكلفاً، بخلاف الصوم والحج فليس الأمر كذلك.