قال الشارح: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم].
كون الأرض كلها مسجداً هذا أمر متفق عليه، وليس معنى ذلك أنها مباني تبنى، بل كلها يصح الصلاة فيها، وكل ما صحت الصلاة فيه فهو مسجد، وهذا من خصائص هذه الأمة التي أعطاها الله جل وعلا لنبيه إكراماً وتفضيلاً له على غيره، وإلا فكانت الأمم قبلنا لا يصلون إلا في أماكن معينة، في البيع والكنائس، يصلون فيها فقط، ولا يصلون في جميع الأرض، كما كانوا لا يصلون إلا بالطهارة ولا تكون إلا باستخدام الماء فقط، وتفضل الله جل وعلا على هذه الأمة وخصها بخصائص، كما قال صلى الله عليه وسلم:(أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي: أحلت لي الغنائم، ونصرت بالرعب مسيرة شهر) وليس هذا خاص به صلوات الله وسلامه عليه، بل المقصود هو وأمته.
قوله:(جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأي رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) في أي مكان كان.
وقوله:(أعطيت الشفاعة) والمقصود بالشفاعة: ما سبق ذكره من أنه صلوات الله وسلامه عليه يشفع للناس كلهم في الموقف؛ ليفصل الله بينهم ويحاسبهم، وهذه له فقط وخاص به.
وقوله:(كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) فهذه خمس خصائص، وله غيرها من الخصائص صلوات الله وسلامه عليه، ولكن هذه ظاهرة جلية، كان يذكرها وينشرها في الأمة.
وقد تكاثرت الأحاديث في النهي عن الصلاة في المقابر وسواء كانت القبور كثيرة أو قليلة فالحكم واحد وهو عدم جواز الصلاة عندها، واستثني من البقاع التي يجوز فيها الصلاة الحمام، وهو: محل التحمم، وقيل له: حمام؛ لأن الغالب أن يكون الماء فيه حاراً، وإنما نهي عن الصلاة فيه؛ لأنه محل لكشف العورات، ولقضاء الحاجات وما أشبه ذلك.
وكذلك المجزرة التي تذبح فيها البهائم، فتوجد فيها الدماء والقاذورات وغيرها، وكذلك قارعة الطريق: كالشوارع التي يسير عليها الناس والسيارات، لا يجوز أن يصلى فيها، فهذه الأماكن خصت من بين سائر الأرض، وهناك أمر خامس استثناه الفقهاء -مع أن وقوعه أندر من النادر- وهو الصلاة على ظهر بيت الله، فلا تصح صلاة الفريضة على ظهر الكعبة؛ لأن المصلي لا بد أن يستقبل شيئاً من البيت، والذي يكون على ظهر الكعبة لا يستقبل شيئاً منها، وهذا يدلنا على استقصاء العلماء، وأنهم لم يتركوا شيئاً من الأمور التي يمكن أن يحتاج إليها الإنسان إلا وبينوا حكمه.
فهذه هي الأماكن التي لا تصح الصلاة فيها، وهي المستثناة من الأرض، أما ما عدا ذلك فالصلاة فيها جائزة ولا يتعين أن يكون هناك فراش، ولا يتعين أن يكون هناك بناء ولا غير ذلك، فإذا أدركت الإنسان صلاته صلى، سواء على أرض مصمتة أو مبلطة أو أرض فيها نبات، أو ليس فيها نبات، أو على جبل، أو في وادي، أو سبخة، أو رمل، أو غير ذلك، ما لم يكن هناك نجاسات، فإذا رأى النجاسة المعينة فإنه لا يجوز أن يصلي عليه، أما إذا لم يشاهد النجاسة وكان يظن وجودها فهذا لا يضر، فالأرض كلها طهور، والصلاة جائزة بنص الحديث.
أما الأرض المغصوبة فلا تصح الصلاة فيها؛ لأنها مغصوبة، لا لأنها أرض، بل لأنها ملك للغير، وملك الغير لا يجوز التصرف فيه، فالنهي عن الصلاة فيها من هذه الناحية.