للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشفاعة الكبرى هي المقام المحمود لنبينا عليه الصلاة والسلام]

المقام المحمود الذي وعد الله جلَّ وعلا بينه في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامَاً مَحْمُودَاً} [الإسراء:٧٩] معنى (محمود): أنه يُحمد على هذا المقام، والصحيح أن المقام المحمود هو الشفاعة الكبرى في الموقف؛ حتى يفصل الله بين عباده ويحاسبهم، وليس فيها أنه يشفع في قوم معينين، بل شفاعة عامة، يشفع إلى الله أنه يأتي ليحاسِب خلقه، وهذا لإظهار كرامته فقط، حتى يبلغ المقام المحمود؛ ولأن الله جلَّ وعلا أراد أن يريح المؤمنين من عناء هذا الموقف، ويدخل الكافرين في جهنم بعدما وقفوا وقوفاً طويلاً وعظيماً، وهذا جاء تفصيله في الأحاديث الصحيحة: أن الله جل وعلا إذا أراد محاسبتهم ألهمهم أن يسألوا الشفاعة من الأنبياء، والأنبياء معهم يخاطبونهم، فيطلبون منهم قائلين: اسألوا الله أن يأتي ليفصل بيننا، وليس هذا مثل سؤالهم وهم في قبورهم؛ لأنهم واقفون معهم، فالموقف فيه الأنبياء وفيه الشهداء وفيه العلماء إلخ، فلهذا أول من يذهبون إليه: آدم؛ لأنهم يتشاورون فيما بينهم بعدما يلهمهم الله جلَّ وعلا ذلك، ولا يلزم أن يكون ذلك لأهل الموقف كلهم، وإنما يكون للبعض، فإذا تشاوروا فيما بينهم قالوا: (ليس هناك أحد أولى من أبيكم آدم؛ لأن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، فيذهبون إليه -وهو واقف معهم- فيخاطبونه ويقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، ألا ترى ما نحن فيه؟! اشفع لنا عند الله ليحاسبنا فيريحنا من هذا الموقف، فيقول: لستُ كما تظنون، أنا عصيت ربي وأكلت من الشجرة، فأخرجني من الجنة؛ ولكن اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول أرسله الله جلَّ وعلا إلى الأرض، وقد سماه الله جلَّ وعلا عبداً شكوراً، فيذهبون إليه ويطلبون منه مثلما طلبوا من آدم، فيعتذر ويقول: إني دعوت على قومي دعوة أُغرقوا بسببها، وإني سألت ربي ما ليس لي به علم، ولا أسأل اليوم إلَّا نفسي، اذهبوا إلى غيري) ومقصودُه بهذا: قوله فيما أخبر الله جلَّ وعلا عنه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:٤٥] لأن الله جلَّ وعلا وعده أن ينجيه وأهله، فقال الله جلَّ وعلا له: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي} [هود:٤٦ - ٤٧] إلى آخر الآية، فهذا الذي جعله يعتذر، وقد غفر الله له وعفا عنه واجتباه، ولكن الموقف هائل، فيرسلهم إلى إبراهيم ويقول: (اذهبوا إلى إبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيذهبون إليه ويطلبون منه ذلك، فيعتذر، ويرسلهم إلى موسى ويقول: إن الله فضله على خلقه بكلامه حيث كلمه بلا واسطة، فيذهبون إليه ويعتذر، فيرسلهم إلى عيسى)، واعتذار إبراهيم يقول: (إني كذبت ثلاث كذبات)، وموسى يقول: (إني قتلت نفساً بلا حق)، وهذا قبل النبوة، وقتله إياه كان خطأً، أما الكذبات التي ذكرها إبراهيم عليه السلام فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنها كلها في ذات الله) يعني: في مجادلته الكفار وفي دعوته إلى إقامة دين الله، وهي أيضاً من المعاريض وليست كذباً صريحاً، وهي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] وقوله: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:٦٣] وقوله في زوجته للظالم الفاجر الكافر: إنها أختي، وقد قال لها: أنت أختي في الإسلام؛ لأنه لو قال: إنها زوجته لأخذها ظلماً، فهذه سماها كذباً من باب التجوُّز، وإلَّا فلها وجه صحيح قد عذر بها إبراهيم عليه السلام؛ ولكن الموقف شديد، وأما موسى عليه السلام فإنه ضرب الرجل بيده، وَكَزَه بيده ولم يرد قتله، فمات بهذه الوكزة، فقتله كان خطأً، والخطأ معفوٌّ عن المخطئ يعني: ما يكون مثل الذي يفعله عمداً، وكان هذا قبل النبوة أيضاً، وقد أخبر الله جلَّ وعلا أنه غفر له، فإنه طلب من ربه أن يغفر له ذلك، فغفر له، فأخبره أنه قد غفر له، ومع ذلك يعتذر ويقول: (إني قتلت نفساً بلا نفس، فيرسلهم إلى عيسى، فإذا أتوا إلى عيسى عليه السلام لا يذكر ذنباً ولكنه يعتذر، ويقول: لستُ كما تظنون، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الرسل، وهو الذي يشفع لكم، فيذهبون إليه، فإذا أتوا إليه يقول صلى الله عليه وسلم: أخرج في سماطين من المؤمنين -يعني: في صفين يخرجون معه من الموقف- يقول: فإذا رأيت ربي خررت ساجداً، فيَدَعُني ما شاء الله أن يدَعَني، ويفتح عليَّ من المحامد والثناء ما لا أحسنه الآن.

جاء: أنه يُترك ساجداً قدر جمعة -أسبوع وهو ساجد-، ثم بعد ذلك يقول الله جلَّ وعلا له: أيْ محمد! ارفع رأسك، واسأل تُعْطَ، واشفع تشفَّع، فيشفع في أن الله جلَّ وعلا يأتي ليفصل بين عباده، فيعده الله جلَّ وعلا بذلك فيأتي لفصل القضاء)، هذه هي الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود، حيث يحمده كل أهل الموقف، وهذا فضل الله فهو الذي أذن له بذلك، وهو الذي أقامه هذا المقام، فالأمر كله بيد الله جلَّ وعلا.

وهذه الشفاعة متفق عليها بين أهل السنة وأهل البدع، حتى الذين ينكرون الشفاعة من المعتزلة والخوارج يقرُّون بهذه الشفاعة، وأما التي أنكروها فهي: الشفاعة في أهل الذنوب، وكونهم يُخرجون من النار، أو كونهم يُمنعون دخول النار، وهم يستحقونها بذنوبهم، فهذه أنكرها هؤلاء.