للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دفن النبي عليه الصلاة والسلام في بيته وليس في المسجد]

النبي صلوات الله وسلامه عليه في بيته، فقبره في بيته وليس في المسجد، وإنما كان في بيته، وبيته صلى الله عليه وسلم كان على حائط المسجد.

فإنه صلوات الله وسلامه عليه لما أتى إلى المدينة مهاجراً ونزل في قباء أول ما نزل، ثم بعد ذلك جاء متجهاً إلى المدينة وكان الأنصار متوزعين في أماكن متفرقة في المدينة، كل فخذ منهم لهم أماكن، وكانوا يتعرضون له، وكل قوم يقولون: إلينا يا رسول الله، يودون أن يسكن عندهم، وكان راكباً على ناقته ويقول: (دعوها فإنها مأمورة)، حتى جاءت إلى هذا الموضع فبركت، ولما بركت لم ينزل عنها؛ لأنه كان يتوقع أن تقوم أيضاً، فتلحلحت ثم وضعت رقبتها على الأرض، وعند ذلك نزل، وكان بيت أبي أيوب الأنصاري قريباً من ذلك المكان، فبادر وأخذ رحل الرسول صلى الله عليه وسلم وأدخله في بيته، فلما طلب منه بعض الأنصار أن يذهب معهم قال: (المرء مع رحله).

فنزل عند أبي أيوب، وكان بيت أبي أيوب مكوناً من دورين على حسب الحال، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم تحت ليكون أسهل له، ثم استدعى من كانت له هذه الأرض، وكانت مربداً يعني: حوشاً فيه نخل وفيه قبور للمشركين، فلما سأل عنها قيل: هذه لأيتام من بني النجار، فطلبهم وقال: (ثامنوني فيه) يعني: بيعوني الأرض، المثامنة البيع، فقالوا: بل نريد الأجر من الله، ولا نطلب له ثمناً.

والمقصود أنه بدأ بعمارة المسجد صلوات الله وسلامه عليه، وأمر بالقبور فنبشت وأخرجت، وأمر بالنخل فقطع، ثم صاروا يبنون، ولما كمل البناء بنى حجراته -لكل زوجة حجرة- خلف المسجد.

لما مرض صلوات الله وسلامه عليه صار كل يوم يذهب إلى واحدة من زوجاته، وبعدما اشتد به المرض صلوات الله وسلامه عليه استأذن منهن أن يمرض عند عائشة، فأذن له، وكان بيت عائشة مع هذه البيوت، فكان عندها حتى توفي في بيتها.

ولما توفي صلوات الله وسلامه عليه اختلفوا أين يدفنونه؟ فروى لهم وأبو بكر رضي الله عنه حديثاً: أن الأنبياء تدفن في الأماكن التي تموت فيها، وعند ذلك دفنوه في موضعه الذي مات فيه، وكان خارج المسجد، وبقي هكذا في زمن الخلفاء الراشدين وزمن معاوية بن أبي سفيان، وزمن عبد الله بن الزبير، وكذلك زمن مروان، وخلافة ابنه عبد الملك حتى جاء ابن عبد الملك الوليد بن عبد الملك وكان مغرماً بالعمارة، فأمر بهدم المسجد وبناءه بناء حديثاً، وزخرفته، وإدخال الحجر فيه، وكان أميره على المدينة عمر بن عبد العزيز، فشرع في ذلك، وصار يشتري من الناس ما حول المسجد، ويدخله فيه توسعة له، وهدمت الحجر، وصارت من ضمن المسجد، وقد عارض هذا الفعل كثير من السلف والتابعين وغيرهم، ولكن لم ينفع اعتراضهم، فصار إدخال القبر في المسجد بفعل الملوك، لا بفعل العلماء ولا بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بالنظر إلى الشرع، وإلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا لا يكون في ذلك حجة، ثم لما أدخل لم يجز أن يتصرف فيه كالتصرف في قبر غيره صلوات الله وسلامه عليه، فصار أمراً واقعاً لا يمكن التصرف فيه.

أما البناء عليه وبناء القبة فهو من المحدثات التي كان ينهى عنها صلوات الله وسلامه عليه، ولكن خولف في ذلك، ومرتكبه آثم إثماً يبقى عليه طوال الدنيا، وهو يزداد يوماً بعد يوم، وهو يحسب أنه كسب بذلك أجراً؛ لأن: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن البناء على القبور أو تشريفها وتسنيمها زيادة على التراب الذي يكون فيها، وينها عن تجصيصها والكتابة عليها، فكيف ببناء القباب عليها؟! ويكون الحكم في إزالة ذلك مثل حكم إدخال القبر، ولا يمكن إزالتها؛ لأن في ذلك من التشويش ومن المفاسد التي قد تحدث أضعاف المصلحة؛ لأن أكثر الناس لا يعرف الحق في هذا، ويرون أن هذا من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، والواقع أنه من معصيته، وليس من تعظيمه.

وعلى هذا فلا يجوز أن يكون هذا حجة لمن يبني على القبور أو يدخلها في المساجد؛ لأن الحجة مقصورة على قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول الله جل وعلا فقط، وليست الحجة في أفعال الملوك ولا أفعال الجهلة الذين يجهلون شرع الله جل وعلا، ولا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الواقع، ولا يمكن أن ينكره من كان عنده أدنى طرف من العلم.

وقد حذر صلوات الله وسلامه عليه من ذلك في أحاديث كثيرة منها: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً، فإني أنهاكم عن ذلك)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي أينما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) كل ذلك تحذيراً من أن يكون قبره قبلة للدعاء والمسألة والتبرك وما أشبه ذلك، فيئول الأمر إلى أن يعبد، وأن يتخذ إلهاً من دون الله جل وعلا.

وإذا حدث شيء من ذلك فإن إثمه على الفاعل؛ لأن البيان والإيضاح والبلاغ من الرسول صلى الله عليه وسلم قد حصل، فإذا خولف فإن الإثم على من خالف، ومعلوم أن العبادة لا يجوز أن تكون لغير الله جل وعلا.