للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب تعظيم الله عز وجل وإثبات صفاته كما جاءت]

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه) فإنه تعالى رب كل شيء ومليكه، والخير كله بيده، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:٤٤] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، وهو الذي يشفع الشافع إليه، ولهذا أنكر على الأعرابي.

قوله: (وسبح لله كثيراً وعظَّمه) لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده، إن شأن الله أعظم من ذلك.

وفي هذا الحديث إثبات علو الله على خلقه، وأن عرشه فوق سماواته، وفيه تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة خلافاً للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل].

تفسير الاستواء بالعلو ثبت عن السلف، وقد فسروا الاستواء بألفاظ أربعة، كما جاء في صحيح البخاري عن أبي العالية قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] يعني: علا، ففسروه بالعلو، كما فسروه بالارتفاع فقالوا: معنى استوى: ارتفع، وفسروه أيضاً بالصعود فقالوا: استوى: صعد، وفسروه أيضاً بالاستقرار فقالوا: استوى: استقر، فهذه ألفاظ أربعة جاءت مروية عن السلف الصحابة والتابعين وغيرهم في تفسير الاستواء.

وأما تفسير أهل البدع فهو تفسير باطل؛ لأنهم فسروه بالاستيلاء فقالوا: معنى استوى: استولى، والاستيلاء يكون مخالفاً لمعنى الاستواء، ويستدلون ببيت ينسب للأخطل النصراني: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق مع أنه لا يوجد حتى في شعره، وهذا عجيب! كيف يترك كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة التابعين الذين فهموا عن الله وعن رسوله ويؤخذ ببيت مجهول لمجهول، أو لضال ضل في ذلك؟! ولكن هكذا أهل الباطل، وهذا إلحاد في أسماء الله جل وعلا، والاستيلاء معناه: المغالبة، أي أنه كان مغلوباً عليه ثم غالب هذا الغالب فغلبه، مثل بشر، فقد كان العراق لواحد آخر فقاتله حتى غلبه فاستقر له، والله يتعالى ويتقدس عن هذا المعنى، فكل شيء ملك له تعالى، فالاستواء معناه ظاهر وواضح وجلي لا يجوز تفسيره إلا بما جاء عن السلف الصالح الذين فهموا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل أسماء الله وأوصافه يجب أن يوقف على النص فيها، ولا يتجاوز كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد من الخلق خالف ما في الكتاب والسنة، ولهذا يقول العلماء: أسماء الله توقيفية أي: أنه يوقف فيها على النص فقط، فإذا جاء النص في ذلك قيل به، وقيل بمقتضاه، وإذا لم يأت نص لا يجوز أن نقول فيها برأينا أو باجتهادنا؛ لأنها في الحقيقة مبنية على شيئين: أحدهما: أن الله ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يقاس بغيره.

الثاني: أن الله غيب لم يره ولم يطلع عليه أحد، فلا يجوز أن يتكلم متكلم فيما هو غائب عنه، وإن تكلم في ذلك فهو يظن ظنوناً، والظن لا يغني من الحق شيئاً، فلهذا لا يجوز أن نصف الله جل وعلا إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.

ويكفي هذا؛ لأن الله جل وعلا خاطبنا بما نفهم، والرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا ما أمره الله جل وعلا ببيانه، ووضحه، فلم يترك الأمر ملتبساً مشتبهاً، بل جلاه غاية الجلاء ووضحه وبينه غاية الوضوح والبيان، وقد علّمنا أشياء أقل من هذا أهمية بكثير، مثل أدب الأكل، وآداب الجلوس، وآداب النوم، وآداب دخول المنزل، وكذلك آدب قضاء الحاجة، علمنا هذه الأمور مع أن هذه لو تركها الإنسان ما كان آثماً، فكيف يترك باب معرفة الرب جل وعلا ملتبساً مشتبهاً، فلا يمكن أن يتركه حتى يشتبه حقه بالباطل، ومن أقر للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه بلغ عن الله فيجب عليه أن يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين باب معرفة الله جل وعلا بياناً واضحاً، وقد قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:٦٧]، فأمره الله جل وعلا أن يبلغ ما أنزله الله إليه، ولو ترك شيئاً لم يوضحه والناس بحاجة إليه ما كان بلغ البلاغ الكامل الذي طلب منه، ولهذا كان السلف يستدلون بهذه الآية على رد البدع كلها، ويقولون: هذه البدع لو كانت حقاً لبينها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قال له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:٦٧] يعني: إن لم تبلغ فالله يعذبك ويعاقبك على ذلك، وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، وأشهد على الناس في أعظم موقف يوم عرفات أو يوم النحر لما خطب الناس خطبته البليغة فقال: (أيها الناس! إنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟) أي: إن الله سيسألكم عني، فيقول لكم: هل بلغكم؟ (فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة، فجعل صلى الله عليه وسلم يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) أي: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي بالبلاغ، فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ، ومن الفروض العينية التي يجب على كل إنسان بعينه أن يعتقدها ويؤمن بها أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ ما أنزل إليه من ربه.

فالذي يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ أوصاف الله ولم يبينها ويوضحها لنا فهو في الحقيقة ما شهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وبهذا يختل إيمانه بالله عز وجل وبالرسول صلى الله عليه وسلم.

والمقصود أننا لسنا بحاجة إلى قول متكلم أو فلسلفة متفلسف أو متحذلق، قد أغنانا الله جل وعلا عنهم بما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب على المسلم أن يستغني بذلك.