للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاعتراض على الله]

قولهم: (لو كان لنا من الأمر شيء) يعني: لو كان التدبير لنا ما خرجنا إلى هذا المكان، ولا قتل من قتل من أصحابنا.

والمقصود بقولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:١٥٤]، المقصود به أصحابهم الذين قتلوا من إخوانهم من نسب وأقرباؤهم وغيرهم من الذين قتلوا، فهم يقولون ذلك على سبيل الاعتراض على القدر، وأنهم كان يستطيعون أن يغيروا من الواقع بتدبيرهم.

يقولون ذلك على سبيل التحسر والتأسف لما وقع، وكل هذا لا يجوز أن يكون؛ لأنه لا يمكن أن يقع دقيق ولا صغير ولا كبير إلا بتقدير الله جل وعلا وإرادته، وهذا لا ينافي الحديث الذي سيذكره المصنف، بل هو يتفق معه.

فالإنسان عليه أن يعمل السبب الذي أمر به ويجتهد فيه، ثم إذا وقع شيء خلاف ما قصد فعليه أن يسلم لقضاء الله وقدره، والإيمان بالقضاء والقدر أصل من أصول الإيمان، فأركان الإيمان ستة، وأحد أركانه الإيمان بالقدر خيره وشره، أي: أن كل ما وقع من الأمور التي تسر أو تضر كلها مقدرة ومقضية قبل أن توجد الأنفس التي وقع عليها ذلك، كما أخبر الله جل وعلا بذلك فقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:٢٢] أي: مكتوب مسجل مقضي ومفروغ منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء).

أي: كل شيء كتب في ذلك اليوم، ثم يقع على وفق هذه الكتابة بلا زيادة ولا نقص في الوقت المحدد الذي حدده الله جل وعلا لذلك بغير تقدم ولا تأخر، ولا زيادة ولا نقص، وما تسقط من ورقة ولا يحصل كبير ولا صغير إلا وقد قدر وكتب وفرغ منه، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:١١] يعني: بأمر الله وتقديره وإرادته وخلقه {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:١١].

إذاً: قول القائل عندما يقع في أمر مكروه: لو أني فعلت كذا لما صار كذا، هذا من شأن المنافقين الذين يظنون بالله ظن الجاهلية، وظن الجاهلية سيأتي الكلام عليه في باب ظن السوء بالله جل وعلا، أنه كل ظن يتضمن باطلاً يخالف الشرع أو القدر فهو من ظن الجاهلية، وأن ظن السوء يجب أن ينزه العبد ربه سبحانه من هذا الظن؛ لأنه متوعد عليه إذا فعله.

فمثلاً: إذا سافر الإنسان فوقع له حادث أو ذهب ببضاعة فخسر فيها فيقول: لو أني لم أسافر ما وقع لي كذا، ولو أني ما ذهبت بهذه الأموال إلى هذا البلد الفلاني أو هذا المكان الفلاني ما خسرت.

فهذا لا يجوز؛ لأنه بذلك يظن أنه يمكن أن يواجه الواقع، ويمكن أن يتغير الواقع، وهذا غير ممكن، فالشيء الواقع لا يمكن تغييره، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).

يعني: ليس هناك تغيير، وكل ما يقع فإنه أمر مقدر لا يجوز الاعتراض عليه بقول (لو)، واعلم أن (لو) تفتح عمل الشيطان مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

إذاً هذا هو معنى قوله تعالى في هذه الآية: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:١٥٤] يعني: أنهم قالوا ذلك على سبيل الاعتراض على ما وقع من قتل الصحابة وهزيمة من انهزم، وما وقع من انتصار الكافرين، وهذا من باب الابتلاء، ولهذا قال جل وعلا في حكمة ذلك {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:١٦٥] يعني: بسبب أنفسكم، وأنتم الذين أفسدتم في هذا وعصيتم.

وهذه يجب أن يعتبر بها الإنسان، فهؤلاء أفضل الخلق من هذه الأمة، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، ومع أفضل الخلق من رسل الله محمد صلى الله عليه وسلم، ووقعت لهم هذه المخالفة فأصيبوا بهذه المصيبة بسبب ذلك، فكيف إذا خالف الإنسان فيما هو أعظم من ذلك وهو أيضاً لا يصل إلى عشر أولئك، فإنه لا يجوز أن يقول: لماذا أنا أصبت بكذا؟ وقد يخرج الإنسان من ظل الإسلام بالاعتراض على القدر، فكثيراً ما تسمع بعض ضعاف الإيمان إذا أصيب بمصيبة، إما مرض أو مصائب أصيب بها بسبب والد أو ولد أو ما أشبه ذلك، تجده يقول: أنا لا أدري من أين جاءتني هذه المصيبة؟ أنا أعمل كذا وكذا، وأنا أصلي! ما معنى هذا؟ معناه أنه ما رضي بما قدره الله، وكأنه يقول: إن الله ظلمني، فأنا لا أستحق هذا الشيء الذي وقع في! وهذا إذا قاله الإنسان بهذا المعنى يخشى إن يخرجه من دين الإسلام؛ لأنه اعترض على ربه ولم يرض بما قدره له جل وعلا، ولهذا فالذين يذعنون ويسلمون وينقادون يثيبهم الله جل وعلا مع أنهم لا يغيرون في الواقع شيئاً، قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٦ - ١٥٧]، ففرق بين من ينقاد لربه ويعلم أنه ملك لله، وأن الله يتصرف فيه كيف يشاء فهو مملوك له، وإذا أعطاه شيئاً فهو فضله عليه، وإن أخذه فهو ملكه، فيقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، ويقول: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً) هذا هو الذي يصلي عليه ربه ويزيده على الصلاة رحمة، أما الذي يعترض فيقول: لا أدري من أين أصابتني هذه المصيبة؟ أنا لم أعمل شيئاً أستحق به ذلك يعترض على ربه جل وعلا، ولم يسلم بالقدر: فهو إما جاهل يجب أن يعلم ويحذر من ذلك، وإما أن يكون عارفاً بذلك ويكون شأنه شأن المنافقين الذين اعترضوا على ما وقع بتقدير الله جل وعلا.

ومعلوم أن مناسبة ذلك لباب التوحيد ظاهرة، فالذي يعترض على أقدار الله إما أن يكون منافياً للتوحيد وإما أن يكون توحيده ناقصاً على أقل حال، ويجب أن يتلافى هذا النقص ويبتعد عنه بأن يعلم أنه عبد لله مملوك لله، وأن أقدار الله جل وعلا جارية، وأنه لا ينفع قوله (لو)، وإنما (لو) تزيد في الأسى، وتفتح باب التسخط والحزن، وتكون وبالاً عليه.