[إنكار الإمام أحمد لاتباع الرأي مع وجود الحديث]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك.
لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك].
قول الإمام أحمد رحمه الله يشبه قول ابن عباس.
يعني: أن الإنسان إذا بلغه الحديث وعرف صحته بالسند فإنه لا يسوغ له تركه لقول أحد من الناس.
وسفيان المقصود به: سفيان الثوري الإمام المشهور، فهو من كبار الأئمة وكان له أتباع إلا أنه لم تحفظ أقواله ولم يعتن بها أصحابه فانقرضت أقواله إلا أنها موجودة في الكتب التي تذكر أقوال العلماء، وهو نظير الإمام مالك ونظير الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله.
والمقصود أنه قيل له: إن قوماً يعتنون بقوله ويدعون الحديث، فقال: عجبت لهم؛ لأنهم يخالفون مخالفة ظاهرة، والله جل وعلا يقول: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:٦٣]، أي: عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣]، يقول الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: هي الشرك.
لعله إذا رد بعض قوله -يعني: قول الرسول صلى الله عليه وسلم- أن يزيغ قلبه فيهلك.
يعني: أن يرد قوله إما بهواه وإما لقول شخص من الناس يعظمه فيكون في ذلك زيغه وهلاكه؛ لأنه اتخذ هذا الشخص أو الهوى رباً كما في الآية التي استدل بها المصنف، وهذا هلاك ليس بعده هلاك، وأما قوله: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣]، فالمقصود به: أن يعاجله بعذاب في الدنيا؛ لشدة المخالفة، وهذا يوافق قول ابن عباس: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء).
فالآية تنص على هذا، وهذا يدلنا على فقه ابن عباس رضي الله عنه، وهذا شيء معروف ومعلوم فقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا سمي حبر الأمة وترجمان القرآن؛ لأنه دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين ومعرفة التأويل -أي: التفسير- فالآية تدل على أن من خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يخاف عليه أن يقع في الشرك، وزيادة على ذلك أن يصاب بعذاب عاجل في الدنيا.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب قال الفضل عن أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاث وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:٦٣]، الآية، فذكر من قوله: الفتنة الشرك -إلى قوله- فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥].
وقال أبو طالب عن أحمد: وقيل له: إن قوماً يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره! قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الكفر، قال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ} [البقرة:٢١٧]، فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي، ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
قوله: (عرفوا الإسناد) أي: اسناد الحديث وصحته، فإذا صح إسناد الحديث فهو صحيح عند أهل الحديث وغيرهم من العلماء.
وسفيان هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه، وكان له أصحاب يأخذون عنه، ومذهبه مشهور يذكره العلماء رحمهم الله في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة كالتمهيد لـ ابن عبد البر والاستذكار له وكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لـ ابن المنذر والمحلى لـ ابن حزم والمغني لـ أبي محمد عبد الله بن قدامة الحنبلي وغير هؤلاء.
فقول الإمام أحمد رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته إلى آخره إنكار منه لذلك، وأنه يئول إلى زيغ القلوب الذي يكون به المرء كافراً].