للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مسائل باب: من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة].

عمل الإنسان الذي يطلب به الدرجات عند الله إذا أراد به الدنيا فإنه لا خلاص له، ويكون داخلاً في قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٦].

والإرادة هنا: المقصود بها الإرادة التي هي عن عمل القلب، ومعلوم أن عمل القلب وإرادته يتبعها عمل الجوارح، ولا يمكن أن يوجد عمل للجارحة إلا وقد سبقته إرادة القلب فهو الباعث إلى الأعمال، ويعبر بالإرادة عن العمل كله، يعني: أن العمل صدر مراداً ومنوياً به هذا الشيء، فإذا صدر العمل من إنسان -مما يتقرب به إلى الله كطلب العلم والحج والصدقة والجهاد في سبيل الله وما أشبه ذلك- لا يريد به إلا تحصيل الدنيا ولا يرغب في الآخرة، وإنما رغبته في الدنيا فهو المقصود بهذه الآية.

[الثانية: تفسير آية هود.

الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة].

لابد أن يفهم كونه يسمى عبداً للدينار والدرهم والخميصة والخميلة، وعرفنا أن الخميصة كساء، يقول الحافظ ابن حجر: الخميلة كساء معلم فيه أعلام، والأعلام هي النقوش والأهداب التي تكون في الثوب للزينة، أما الخميصة: فهي الكساء المربع، ويشبه الشيء الذي يلتف به كالرداء وما أشبه ذلك، فكيف يكون العاقل عبداً لهذا؟! أما الدينار والدرهم فمعروفان، ولكن ليس المقصود أنه يعمل العمل ويطلب الشيء من الخميلة والخميصة أو الدرهم أو الدينار، ولكن المقصود أنه يريد بعمله الدنيا، ولهذا سمي عبداً لها؛ لأنه جعل عمله من أجلها، فهو يخدم المال يخدم الدينار والدرهم يعمل على تحصيله ويتعب نفسه في ذلك، وهمه جمعه وحياطته وحيازته، وإذا حصل له اجتهد في العمل ورضي، وإن لم يحصل له ذلك ترك العمل وسخط؛ لأنه ليس له مقصد إلا هذا فيكون عبداً له، ويكون مثلما ذكر في الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [هود:١٥].

أما كون المسلم يحب المال ويجمع المال فلا ينافي أنه مسلم ومؤمن؛ لأن هذا شيء لابد منه ولكن لا يجوز أن يكون عمله من أجل ذلك، بل يكون همه وكدحه هو الحصول على رضا ربه، وإذا ذهبت الدنيا فلا يأسف عليها ولا تهمه كثيراً، فيقدم الدين على الدنيا، أما إذا قدم دنياه على دينه فيكون عابداً للدنيا.

ومعروف أن العبادة يجب أن تكون لله ولا يجوز أن تكون لأحد غير الله جل وعلا، والعبادة قد يقصد بها شيء محسوس مشاهد كما هو معروف عند الكفار والمشركين: منهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الشجر والحجر، ومنهم من يعبد القبور كما هو معلوم، وقد تكون العبادة متجهة لشيء معنوي من رئاسة ومنصب ووظيفة أو مال، وكثير من الخلق اليوم يعبدون بطونهم وفروجهم نسأل الله العافية؛ لأنهم يعملون على تحصيل شهواتهم فقط، فهذه أهم ما لديهم، وكذلك كثير من الناس يعبد حبه وإراداته وشهواته كما قال الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:٢٣]، يقول العلماء: من اتخذ إلهه هواه معناه: الذي إذا اشتهى شيئاً فعله بدون مراقبة لله جل وعلا أو خوف منه، أو يرجو ثوابه، بل يقدم هوى نفسه.

فالمسلم ليس هذا شأنه وإن حصل على الدنيا وطلبها، ولكن طلبه إياها على وفق أمر الله جل وعلا، فلا يطلبها بفعل محرم، ولا يطلبها من الطريق الذي حرمه الله جل وعلا، ولكنه يطلبها بالطرق التي أباحها الله جل وعلا وأمر بها.

ثم هو بالمال يعبد ربه، فيؤدي زكاته، وكذلك يستعين به على عبادة الله، وكذلك يبذله فيما وجب عليه، وكذلك يتقرب به أو بما يسر الله منه في طاعة الله جل وعلا، وترك المال والعزوف عنه ليس من شأن المسلمين وليس من أمر الدين الإسلامي، بل الإسلام يحث على تحصيل المال، ولكن من الطرق الصحيحة المشروعة.

ولهذا إذا نظر الإنسان في كتاب الله يجد أن الله جلا وعلا يقدم الجهاد في سبيل الله بالمال على النفس، لا تجد آية في كتاب الله من الآيات التي فيها الأمر بالجهاد في سبيل الله إلا ويذكر الجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس، مما يدل على أنه لابد من المال، ولكن يجب أن يكون طيباً حتى يكون مقبولاً ونافعاً، أما إذا كان من الطرق التي حرمها الله، فإنه إن أنفق منه لم يقبل، وإن أكل منه أفسد عليه قلبه، وإن خلفه فتركه خلفه صار عذاباً وحساباً عليه، فلابد أن يكون المسلم متقيداً بأمر الله جل وعلا في طلب المال وفي غيره، فإنه في عبادة إذا كان متقيداً بالشرع، أما الزهد في المال والإعراض عنه نهائياً فإن هذا ليس مطلوباً؛ لأن الإنسان لابد له من شيء يقتات به، ولابد له من شيء يتمتع به، وكونه يستغني بعمله وبما يكسبه لنفسه أمر مطلوب شرعاً، حتى يستغني عما في أيدي الناس، وإذا فعل ذلك قصداً لكف نفسه وإغنائها عن الخلق والقيام على من أوجب الله عليه القيام عليهم، كان في عبادة فكيف إذا بذله في الجهاد في سبيل الله؟! ولهذا السبب ذهب فقراء المهاجرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويجاهدون كما نجاهد، ولكنهم ينفقون وليس عندنا شيء ننفقه، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على شيء تسبقون به من لم يعمل به وتلحقون من سبقكم به، تكبرون الله وتسبحونه وتحمدونه دبر كل صلاة: ثلاثاً وثلاثين)، يعني: ثلاثاً وثلاثين تكبيرة، وثلاثاً وثلاثين تسبيحة، وثلاثاً وثلاثين تحميدة، فذهبوا بهذا المكسب، (فسمع إخوانهم من أهل الدثور فقالوا مثلما يقولون، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! إخواننا سمعوا ذلك فقالوا مثلنا)، يعني: فهم يحصلون على الأجر مثلما نحصل عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، يعني: أن الصدقة وبذل المال تفضل الله به على الأغنياء وبذلك فضلوا الفقراء، وعلى هذا يكون أهل الدثور وأهل الأموال أفضل من الفقراء في تحصيل الأعمال إذا قصدوا بها وجه الله واتبعوا فيها الكتاب والسنة.

قال المصنف رحمه الله: [الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط.

الخامسة: قوله: (تعس وانتكس).

السادسة: قوله: (وإذا شيك فلا انتقش).

قوله: (تعس وانتكس)، يجوز أن يكون خبراً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن حالته أنه له التعاسة والشقاء، وأنه إذا وقع في شدة لا يستطيع أن يتخلص منها، فهو يهلك عند أول أمر يقع فيه من الشدائد، ويجوز أن يكون دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم عليه بالتعاسة والشقاوة وعدم الخروج من الورطات التي يقع فيها؛ لأنه عمل أعمالاً لم يقصد بها وجه الله، بل خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فاستحق الدعاء عليه.

[السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات].

يشير إلى تلك الصفات: أشعث رأسه، مغبرة قدماه، آخذ عنان فرسه في سبيل الله، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، يعني: أنه قائم أتم القيام في أمر الله وفي محاربة أعداء الله وإعلاء كلمة الله يطلب بذلك مرضاة الله جل وعلا، ولا يهمه كونه إذا شفع لم يشفع وإذا طلب شيئاً لا يناله ولا يعطاه من المسئولين؛ لأن هذا ليس مقصوده، إنما مقصوده مرضاة الله ولهذا قال: (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)، يعني: أن عمله ليس للناس وليس للدنيا، ومعروف أن غالب الناس ينظرون إلى الذي يكون بيده شيء من أمور الدنيا ومن المناصب وغيرها أكثر من غيره، أما هذا فعدل عن ذلك نهائياً، فآثر الخمول وعدم الظهور على كونه يظهر ويبرز ويشار إليه؛ لأنه لا يريد ما في أيدي الناس، وإنما يريد ما عند الله جل وعلا فآثر ذلك، فهذا هو الذي يستحق الثناء؛ لما قال له صلى الله عليه وسلم: (طوبى له)، وطوبى: تعني السعادة الطيبة والحياة الطيبة أو الجنة بما فيها.