في الحديث أن أهل التوحيد يعرفون قدر الشرك وقدر التوحيد؛ فلهذا صبر هذا الرجل على إزهاق نفسه ولم يقرب ذباباً، وإن كان بإمكانه أن يقرب ظاهراً مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وقد جاء أن مثل هذا يكون معذوراً، قال تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}[النحل:١٠٦] لكنه اختار أن يقتل ولا يكون فعله موافقاً للشرك، ولو في الصورة الظاهرة فقط؛ لأنه يعلم عظم الشرك عند الله جل وعلا، ويعلم عظم الإخلاص والتوحيد لله جل وعلا، ولهذا جازاه ربه جل وعلا بأن أدخله الجنة.
وقد يقال: أليس مأذوناً لمثل هذا أن يوافق في الظاهر؟ فنقول: نعم.
ولكن لا يلزمه أن يوافقهم في الظاهر وإن كان قلبه مطمئناً بالإيمان، بل إذا صبر فقد أخذ بالعزيمة وذلك أفضل، والظاهر في شرع من قبلنا أنه ليس من دينهم العفو على الإكراه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه:(عفي عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فقوله: (أمتي) يدل على أنه لم يعف لغيرهم، وإنما هذا من خصائصهم.
وهذه الأمة لها خصائص لا توجد لمن كان قبلهم كما هو معروف عند أهل العلم، وهو ظاهر في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود بهذا أن يبين عِظَم الشرك، وكذلك عظم ثواب التوحيد، وكذلك عظم قدر الشرك في قلوب عباد الله المؤمنين الذين عرفوا قدر الله وعظموه، فيصبر أحدهم على القتل وإن كان بإمكانه أن يتخلص بدون أن يكون مشركاً، إلا أنه اختار أن يموت، ولا يوافقهم ولو في صورة الفعل الظاهرة.