للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر الخلاف في سبب نزول قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفورا للمشركين)]

قال الشارح رحمه الله: [قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:١١٣] الآية، أي: ما ينبغي لهم ذلك.

وهو خبر بمعنى النهي.

والظاهر: أن هذه الآية نزلت في أبي طالب؛ فإن الإتيان بـ (الفاء) المفيدة للترتيب في قوله: (فأنزل الله) بعد قوله: (لأستغفر لك ما لم أُنْهَ عنك) يفيد ذلك].

ولكن يشكل على هذا أن هذه الآية من آخر ما نزل؛ لأن هذه القصة كانت في مكة، والآية هذه هي في سورة التوبة، وسورة التوبة نزلت في رجوعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك في السنة العاشرة، فكيف يكون نزولها بسبب ذلك؟! وكذلك ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لما ذهب في عمرة القضية -وعمرة القضية في السنة السابعة من الهجرة- ووصلوا إلى الأبواء، ذهب إلى قبر أمه؛ لأن قبر أمه صلوات الله وسلامه عليه في الأبواء، وبكى عند قبرها فقال: (إني استأذنت ربي أن أستغفر لها فأبى، واستأذنته أن أزورها فأذن، فزوروا القبور ولا تقولوا هجراً) فلو كانت هذه الآية نازلة قبل هذا ما استأذن ربه جلَّ وعلا أن يستغفر لها، فدل هذا على أنها نزلت بعد ذلك، وعلى هذا فإن القول بتأخر نزول هذه الآية متعين، ويدل على ذلك أيضاً أنه كان يستغفر للمنافقين، فلما مات عبد الله بن أبي وهو رأس المنافقين استغفر له، مع أنه قد فعل الأفاعيل المعروفة والمذكورة في القرآن من قوله: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:٨] وفي غزوة أحد رجع بثلث الجيش، وقال: إنه يخالف أمري وأمره ويطيع أمر السفهاء، فعلام نقتل أنفسنا؟! فخذله الله، فلما مات جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من أفضل المؤمنين، وطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يعطيه قميصه ليكفنه به، فأعطاه قميصه، يقول بعض العلماء: إن عطيته قميصه كانت مجازاةً له؛ لأن العباس لما جاء مأسوراً بعد معركة بدر -وكان العباس رجلاً ضخماً طويلاً- فما وجدوا له ثوباً إلَّا ثوب عبد الله بن أبي؛ لأنه كان كذلك، فأعطاه، فكان مجازاةً له، وليس هذا هو الظاهر، بل الظاهر: أنه أعطاه قميصه لما طلب ابنه منه ذلك، وطلب منه أن يُصلي عليه فأجابه، فقام ليصلي عليه، فعلق به عمر فقال: أتصلي عليه وقد قال يوم كذا وكذا، وفعل يوم كذا وكذا؟! فقال له: (دعني؛ فإن الله جلَّ وعلا قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:٨٠] فوالله! لو علمت أني إذا زدت على السبعين أن الله يغفر لهم لزدتُ، فقام وصلى عليه)، ثم بعد ذلك نزل قول الله جلَّ وعلا: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدَاً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:٨٤]، وهذه الآية التي في سورة التوبة هي في المنافقين، وكل هذا يدل على أن نزول هذه الآية كان متأخراً.

وكذلك جاء ما يدل على ذلك: فعن علي بن أبي طالب أنه سمع رجلاً يستغفر لأبيه وأمه، وقد ماتا على الشرك، فأخبر الرسولَ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.

ويجوز أن تتعدد الأسباب، ويكون المعنى: أن هذه الآية نزلت في النهي عن استغفاره للمشركين عامة، وإذا ماتوا على الشرك لا يجوز الاستغفار لهم، كما أن الإنسان إذا مات على الكفر أو على النفاق لا يجوز أن يُصلى عليه أو يُقام على قبره.

[وقد ذكر العلماء لنزول هذه الآية أسباب أُخَر، فلا منافاة؛ لأن أسباب النزول قد تتعدد.

قال الحافظ: أما نزول الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب، وأما نزول الآية التي قبلها ففيه نظر].

يقصد بالآية الثانية آية سورة القصص: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:٥٦] وهذا واضح.

قال الشارح رحمه الله: [ويظهر: أن المراد: أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وحق غيره، يوضح ذلك ما يأتي في التفسير، فأنزل الله بعد ذلك: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:١١٣] الآية، ونزل في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:٥٦] كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام، ويضعِّف ما ذكره السهيلي أنه روي في بعض كتب المسعودي أنه أسلم؛ لأن مثل ذلك لا يعارِض ما في الصحيح.

انتهى].

المسعودي لا يوثق بكلامه، ولا بنقله، ولا بقوله؛ لأن مذهبه معروف، وطريقته معروفة، وكتبه مشحونة بما هو كذب، هذا في الظاهر، وإن كان هو قد لا يتعمد الكذب، ولكن كون الإنسان ينقل ما يراه كذباً وما يراه باطلاً فهذا يكفي في اجتناب ما يكتب وما يقول.