للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الباطل لا ينفق إلا بتحسين الهيئة والمنطق وقلب الحقائق]

وجه الاستنباط من الآية قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١] في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١] فجعلوا الإفساد إصلاحاً، ولابد أن يحسنوا أعمالهم ويزينوها أمام الناس، وكذلك أقوالهم حتى يغتر بها من لا يعرف الواقع ويعرف الحقيقة.

وهذا يفيدنا أنه ينبغي للإنسان أن يتفطن لأقوال الناس وأعمالهم ويعرف ويميز بين ما هو موافق للكتاب والسنة، وبين ما هو مخالف، فيقبل ما وافق الكتاب ويرد المخالف للكتاب والسنة، ولا يغتر بتزيين الكلام فإنه قد يراد به باطلاً، فقد يكون الإنسان ذو مقدرة على تحسين الكلام، وتزيينه، وإلباسه لباساً يستدعي الاستماع إليه، وقبوله، وهو في الواقع باطل.

ولهذا يقول الله جل وعلا في سورة المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:٤] يعني: أنهم لهم المرأى الحسن والمنظر الجميل والطلعة البهية واللباس الفاخر، فإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم -أي: مناظرهم- {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:٤] يعني أن عندهم بلاغة وفصاحة وبياناً يستطع أحدهم أن يلفت النظر إليه بهيئته، ويلفت الأسماع بقوله، وهؤلاء من أضر الخلق على الخلق، ولهذا حذر منهم جل وعلا، فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:٤]، فأخبر أنهم هم العدو، وليس معنى ذلك أن العدو محصور فيهم، ولكن لشدة ضررهم وعداوتهم على المسلمين والإسلام حصر العداوة فيهم، وإلا فهناك أعداء غيرهم.

قال الشارح رحمه الله: [فما أكثر من يصدق بالكذب ويكذب بالصدق إذا جاءه، وهذا من الفساد في الأرض، ويترتب عليه من الفساد أمور كثيرة تخرج صاحبها عن الحق وتدخله في الباطل، نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.

فتدبر تجد ذلك في حال الأكثر إلا من عصمه الله ومَنَّ عليه بقوة داعي الإيمان وأعطاه عقلاً كاملاً عند ورود الشهوات، وبصراً نافذاً عنده ورود الشبهات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:٥٦]].

سبق أن المعاصي هي التي يقع بها الإفساد في الأرض، فكل معصية تكون فساداً، وإن كانت محصورة على المفسد نفسه؛ لأنه أفسد في نفسه، والأرض خلقها الله جل وعلا لتكون متاعاً لعابديه، ثم قال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:٢٩].

والخطاب للمؤمنين الذين يؤمنون به، أما الذين يفسقون -والفسوق: الخروج عن الطاعة- فإنهم لا يستحقون أن يكونوا في أرض الله وفي ملك الله؛ لأنهم خرجوا عن طاعته، والله جل وعلا لا يفوته شيء، وإنما يمهلهم حتى يوافوه فيجازيهم بما يستحقون، فكل معصية وقعت في الأرض فهي من الفساد، ومعروف أن الفساد يتفاوت.

وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:٥٦] المقصود بالإصلاح إصلاحها بالدعوة التي جاءت بها الرسل، وفي هذه الآية جعل الإفساد مطلقاً، فتبين بهذا أن كل خروج عن طاعة الله جل وعلا يكون فساداً في الأرض.

والشاهد من الآية أن الخروج عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم تحكيمه في النزاع وغيره من الفساد في الأرض، بل هو من أعظم الفساد في الأرض، بل ربما يكون أصل الفساد في الأرض عدم الانقياد للأوامر التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.