للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح قوله تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه)]

قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٢]].

هذه الآية من الآيات التي تبطل التعلق بغير الله جلَّ وعلا، وفيها الحجة الواضحة على المشركين، وإلزامهم بأن يعبدوا الله وحده، وقوله جلَّ وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:٦٢] هو سؤال من الله جلَّ وعلا واستفهام لهم ويطلب جوابهم عليه،

و

الجواب

أنه الله وحده، وكلهم يعترف بهذا، والمضطر هو الذي وقع في الضرورة، ووقع في شدة ألجأته إلى أن يرفع يديه إلى ربه، والإنسان إذا وقع في الكرب والشدة فإن في فطرته ما يجذبه إلى ربه، ويجعله متجهاً إليه وحده، إلَّا إذا تغيرت الفطرة نهائياً، وأصبحت منكوسة منتكسة، فربما دعى الاضطرار المقبور واتجه إليه وهو لا يزيده إلَّا ضلالاً، ولا يزيده إلَّا بعداً عن الله جلَّ وعلا، والخطاب هنا للعقلاء لا للمجانين الذين ذهبت عقولهم وأصبحوا لا عقل ولا فطرة لهم، إنما هو للعقلاء الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المشركين كان أحدهم إذا ركب البحر وعصفت به الريح فإنه يقبل على الله وحده، ويدعوه وحده، وإذا كان معه صنم ألقاه في البحر وكفر به، حتى ينجو إلى البر، فإذا نجا وذهبت الشدة عاد إلى شركه القديم، وانتكس، فاحتج الله جلَّ وعلا عليهم بهذا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:٦٢]، وهم يعلمون علماً يقينياً أنه الله، فجوابهم على هذا: الله هو الذي يجيب المضطر، ((وَيَكْشِفُ السُّوءَ)) وإذا وقع سوء عام أو خاص فلا تستطيع الأصنام والأوثان التي يعبدونها أن تكشفه، وإنما يكشفه الله جلَّ وعلا، وهم يعترفون بهذا، فلهذا جعل الله جلَّ وعلا ذلك دليلاً على وجوب إخلاص العبادة له، ولهذا قال: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٢] أي: أتتألهون شيئاً من المخلوقات مع الله جلَّ وعلا، وأنتم تعترفون أنه لا يجيب المضطر إلا هو؟! أليس هذا تناقض؟! أليس هذا -في الواقع- إهدارٌ للعقل وللفطرة وللدليل واتباع للهوى؟ إن التقليد والهوى ينكشفان ويذهبان إذا جاءت الشدائد، فإذا وقع الإنسان في الشدائد والسوء ذهب عنه الهوى والتقليد، كما وقع لفرعون الذي كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، فلما وقع في الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس:٩٠]، ولكن هذا لا يفيد في هذه الحالة، فصار هذا دليلاً واضحاً جلياً على وجوب الإخلاص في دعاء الله وعبادته، وأن تكون العبادة له وحده، وأن يكون التأله لله وحده، وكان ذلك دليلاً على المشركين، وأصبحوا لا عذر لهم في شركهم، لإقامة الأدلة والحجج عليهم ومنها هذا.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:٦٢]]: هذه الأمور الثلاثة: إجابة المضطر، كشف السوء، جعلكم خلفاء في الأرض، كلها ظاهرة في أنها خاصة بالله جلَّ وعلا، يعترف بها لله كل من له عقل سليم وفطرة سوية، إلَّا الذين يقولون -مثلاً- بإنكار وجود الله نهائياً، ويقولون: إن هذا الخلق من صنع الطبيعة، وما الحياة إلا موت يذهب بالمتقدم، وحياة تستقبل المواليد؛ لأن الحياة مادة، فليس هناك إلَّا هذا؛ ولكن هذا إهدار للعقل نفسه من الذي خلق وأمات؟! هل الإنسان يخلق نفسه أو يميتها؟! أو يعفل ذلك في غيره؟! لا أحد يقول هذا، ولا يستطيع أن يقوله أحد.

إذاً لابد أن يكون للمخلوق خالق قدير بصير عليم، غني بذاته عن كل ما سواه، وكل من سواه مفتقر إليه، وكل أهل العقول والفطر السليمة يقرون بهذا، وإنما المكابرون هم الذين يقولون بخلاف هذا في حالة العافية، وليس في حالة الشدة، فإذا جاءت الشدائد -حتى الملاحدة- يرجعون إلى رشدهم، ولكن لا ينفع رجوعهم حينها.

إذاً: الأمور الثلاثة واضحة الدلالة على وجوب عبادة الله، فكونه يجيب المضطر، وكونه يكشف الشدائد والأمراض والكربات التي يقع فيها الناس عموماً، وكونه يجعل الناس يخلف بعضهم بعضاً: يستوجب عبادته وحده سبحانه.

قال الشارح رحمه الله: يبين تعالى أن المشركين من العرب ونحوهم قد علموا أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء إلَّا الله وحده، فذكر ذلك سبحانه محتجاً عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه، ولهذا قال: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) يعني: يفعل ذلك.

فإذا كانت آلهتهم لا تجيبهم في حال الاضطرار، فلا يصلح أن يجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء وحده، وهذا أصح ما فسرت به الآية كسابقتها من قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارَاً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارَاً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزَاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل:٦٠ - ٦١]، ولاحقتها إلى قوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:٦٣ - ٦٤]]: وهذه الآية التي ذكرها مثلما قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٥ - ٦]، والآيات في هذا المعنى في القرآن كثيرة، وهذه الآية وهي قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٢]، مثل قوله تعالى أيضاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشَاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:٢١ - ٢٢] إلى آخر الآيات؛ لأن المشركين يقرون بأن الله جلَّ وعلا هو الخالق المتصرف، وهو الذي يملك كل شيء، وليس معه في ذلك مشارك، ولهذا قال: إن أصح التفسيرين في هذه الآية في قوله: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ)).

بمعنى: أن ما يقوله بعض المفسرين بأن المعنى: أمشارك له فعل هذه الأشياء؟ أنه غير صحيح؛ لأنهم مقرون بأن الفاعل لهذه الأشياء الموجودة الظاهرة هو الله وحده، وما كان أحداً منهم ينكر ذلك، وإنما كانوا ينكرون أن تكون العبادة لله وحده، ولهذا ذكر ذلك بلفظ الألوهية ((أَإِلَهٌ)) ولم يقل: أمشارك له فعل ذلك؟ أخالق معه فعل ذلك؟ وإنما أنكر عليهم التأله؛ لأنهم مقرون بأنه جلَّ وعلا لا شريك له في الفعل والإيجاد، والخلق والتصرف، وهو الذي يسمى بتوحيد الربوبية، فقد كانوا مقرين به، وإنما أنكروا توحيد الإلهية بأن جعلوا معه شريكاً، وإلَّا فهم يتألهون لله جلَّ وعلا، ويرون أن الله جلَّ وعلا هو أعلى ما يُتأله وأعظم؛ ولكن الشركاء الذين أشركوهم في التأله جعلوهم وسائط بينهم وبين ربهم، مثلما أخبر الله جلَّ وعلا عنهم بقوله جلَّ وعلا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣].

يعني: وسطاء وشفعاء يشفعون لهم.

أما الملك والإيجاد والتصرف والخلق فما كان أحد منهم يشك أنه بيد الله جلَّ وعلا، وهذه الآيات استدل الله جلَّ وعلا بها على الكفار الذين يشركون معه في العبادة غيره؛ لأنهم إذا وقعوا في الاضطرار أخلصوا له الدعوة؛ ولأنهم يعلمون أن آلهتهم التي يشركونها مع الله لا تنفع ولا تستجيب لهم، فإذا كان الأمر هكذا، في أنها لم تستجب في وقت الشدة والاضطرار فهي كذلك في الرخاء لا تستجيب، وهذا كثيراً ما يرد في القرآن، فيستدل الله جلَّ وعلا عليهم بالشيء الذي يؤمنون ويقرون به، على الشيء الذي واقعوا الشرك فيه وهو العبادة، وليس لهم حجة في هذا، وإنما تمسكوا بما كان عليه آباؤهم، وما وجدوا عليه معظَّميهم تقليداً واتباعاً للآباء فقط، كما قال جلَّ وعلا عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣] أي: وجدناهم على ملة وعلى دين ونحلة -هذا هو المقصود بالأمة، فالأمة هنا: الملة والدين- فنحن متبعون لهم ومقتدون بهم، وهذه حجتهم فقط وهي حجة كل الكفار، حتى قال فرعون لموسى عليه السلام -لما جاءه بالدعوة إلى عبادة الله وحده-: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:٥١] أي: ما بال الأمم السابقة.

لماذا لم توحّد في عبادتها؛ فجعل ذلك حجة، وهي لا تزال حجة عند الناس، ولكنها حجة تقليد فقط، ليس فيها أي برهان، وإنما البراهين القاطعة في إبطالها ظاهرة جلية، ولهذا استحقوا العذاب بذلك؛ لأنه ليس أمامهم ولا في أيديهم شيء يتمسكون به، لا حجة من كتاب مُنَزَّل، ولا من عقل سديد، ولا من فطرة سليمة، ولا من خلق، فالمشرك ليس عنده إلَّا مجرد التقليد فقط.

وفي هذه الآية ذكر أموراً، فإذا لم تتوافر في المعبود الم