للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين الفأل والطيرة]

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ويعجبني الفأل) قال أبو السعادات: الفأل -مهموز- فيما يسر ويسوء، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وربما استعملت فيما يسر، يقال: تفاءلت بكذا وتفاولت، على التخفيف والقلب، وقد أولع الناس بترك الهمز تخفيفاً، وإنما أحب الفأل؛ لأن الناس إذا أملوا فائدة الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله تعالى كان ذلك من الشر.

وأما الطيرة: فإن فيها سوء الظن بالله، وتوقع البلاء، والتفاؤل: أن يكون رجل مريض فيسمع آخر يقول: يا سالم! أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر، يقول: يا واجد! فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته].

ليست الطيرة ظن الشر فقط، وأنها ممنوعة من أجل ذلك، فهذا ممنوع ولا يجوز أن يظن الإنسان الشر، والله جل وعلا أخبر أنه لا يصيب الإنسان شيء إلا بما كسب: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠]، ولكن الطيرة تمنع لهذا، ولأن الإنسان يعتقد أن هذا الطائر أو هذا الذي تطير به أنه سبب عليه وقوع الشر والحوادث، وأن هذا علامة على وقوعه، وهذا رجم بالغيب وكذب، فالله ما جعل هذا علامة، ويجب على الإنسان أن يتبع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن الله جل وعلا هو المتصرف في كل شيء، وأنه ليس نعيق الغراب -مثلاً- سبباً في غربة الإنسان أو موته، أو ظهور الثعلب أمامه سبب في ظفره وسعادته، هذا كذب على قدر الله وتصرفه، فإن هذه الأشياء ليس عندها الخير لا الغراب ولا الثعلب ولا غير ذلك، فالطيرة ممنوعة، ليس لأنها ظن الشر فقط، بل لأن الإنسان رتب على ذلك وقوع أشياء يقدرها الله، وهذا تكذيب لله جل وعلا، فهو لا يقع شيء إلا بإذنه وإرادته.

أما قول القائل: إن الله جعل التقدير مرتباً على وجود ذلك، فهذا كذب أيضاً، فمن أين له أن الله جعل ذلك مرتباً على هذا؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هذا باطل وشرك، فتعلق الإنسان بهذا الطائر -مثلاً- أو ذاك الحيوان، وظنه أن التصرفات والأمور تقع بسبب نعيقه أو حركته أو ظهوره، فهذا أشرك بالله في ذلك، حيث أضاف الحوادث إلى غير إرادة الله ومشيئته، فالله ما جعل ذلك دليلاً على أنه أراد شيئاً؛ لأن هذا تكذيب بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقول الله جل وعلا.

فالمقصود أن الطيرة ممنوعة؛ لأنها ظن الشر، ولأنه يزعم المتطير أن هذا الشيء -طائر أو غيره- تقع الحوادث بسببه، أو بظهوره، فهذا هو معنى كونها شركاً.

[قوله: (قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة)، بين صلى الله عليه وسلم أن الفأل يعجبه، فدل على أنه ليس من الطيرة المنهي عنها.

قال ابن القيم: ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، وموجب الفطرة الإنسانية، التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، وكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم].

يعني: أنه جبل في الطبيعة على حبها والميل إليها، ولكن الفأل ليس هو هذا، الفأل: ظن الخير ورجاؤه كما سبق، وقد يكون الفأل في إظهار الحق وقمع العدو، مثلما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم يوم ذهب إلى خيبر وأتاهم صباحاً، وهم لا يعلمون به، فرآهم قد استقبلوه بالعمال ومعهم المساحي والفئوس للعمل، قال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بقوم فساء صباح المنذرين)، يعني: لما رأى آلات الهدم كالمساحي والفئوس، تفاءل بأن خيبر خربت؛ لأنها عمرت على المعصية، وعلى محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتفاءل بذلك، فحقق الله جل وعلا ذلك له، وهذا لا يمنع العمل والاجتهاد والجد، ولكنه رجاء وظن، يرجو من الله ويظن به أن يحقق له هذا الرجاء، وهو مثلما سبق، إذا رجا الناس ربهم -ولو كان السبب ضعيفاً أو العلامة ضعيفة- فإنهم على خير؛ لأن رجاء الله عبادة، وظن الخير به عبادة، فيكونون على خير، بخلاف الطيرة، فإنها تطبيق للشيطان، واتباع لمخلوق ليس عنده أي تصرف، وتكون شركاً.