للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدعوة إلى الله قبل القتال]

لما برأ علي دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم الراية وقال له: (امض على رسلك) يعني: على تؤدة وسكينة بغير عجلة ولا صراخ ولا صياح (حتى تنزل بساحتهم -وفي رواية ولا تلتفت-) حتى يكون هذا دليل التصميم وقوة العزيمة وعدم النكوس، ولهذا لما أخذ علي رضي الله عنه الراية وسار قليلاً وقف فصرخ: علام أقاتلهم يا رسول الله؟! فقال: (امض على رسلك حتى تنزل بساحتهم، فإذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه) أي: من حق الله في الإسلام.

وهذا هو المقصود في القتال والدعوة إلى الله جل وعلا، من أجل أن الكفار يدخلون في الإسلام ويعرفون حق الله الذي عليهم، وهو ما ذكر في الحديث الذي قبل هذا، أن يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا، ويحجوا، هذا هو المطلوب منهم، فإذا امتثلوا ذلك واستجابوا له وجب الكف عنهم، وصاروا مسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فيترك المجاهدون أموالهم وبلادهم، ولا يجوز أن يتعرضوا لهم بشيء، وفي هذا دليل واضح على وجوب الدعوة إلى الله جل وعلا، وأن الدعوة تكون إلى الإسلام أولاً، إلى الأصول، إلى شهادة ألا إله إلا الله كما سبق، ولهذا قال: (ادعهم إلى الإسلام)، ولا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً حتى يشهد ألا إله إلا الله، وقبل أن يشهد ألا إله إلا الله فإن صلى وتصدق وعمل أي عمل من أعمال البر ما يقبل منه، ولا يعتد به حتى يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

وفي هذا دليل على أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يجب أن يدعوا إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا بد أن يشهدوا أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، بالإضافة إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهكذا كل من كان يدين بدينٍ قد اتخذه مصدر ديانة وتمسك به وزعم أنه هو الحق، فلابد أن يبرأ منه مع شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكن هنا ما ذكر ذلك لأسباب، منها: أن اليهود علموا علماً يقينياً بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ومع ذلك ما اكتفى صلوات الله وسلامه عليه بأن يقاتلهم دون دعوة، بل دعاهم قبل المقاتلة، وهذه الدعوة التي تكون قبل المقاتلة قال العلماء فيها: إنها ليست حتماً واجباً على الإمام قبل المقاتلة إلا إذا لم تبلغهم الدعوة، أما إذا كانت الدعوة قد بلغتهم فيجوز مداهمتهم وأخذهم على غرة، وقتل من يقاتل منهم، وسبي الأموال والذرية، ثم بعد ذلك إذا أسلم من أسلم منهم فهو في حكم المماليك.

والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارّون -أي: غافلون- يسقون على مياههم، فما علموا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دهمهم وأغار عليهم، وقتل مقاتلتهم وسبى أموالهم وذريتهم؛ لأن الدعوة قد بلغتهم، وكان قد بلغه أن رئيسهم يجمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مقاتلته، فباغته الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وهذه سنته صلوات الله وسلامه عليه التي سنها لأمته، إذا علم أن قوماً يستعدون لقتاله فإنه يغزوهم في بلادهم قبل أن يغزوه؛ لأن الذي يغزى في بلاده يذل، وفي الأثر: (ما غزي قوم في بلادهم إلا ذلوا)، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه يفعل ذلك امتثالاً لأمر الله.

وقوله: (حتى تنزل بساحتهم) الساحة: هي الفناء القريب من البيوت.

حيث يسمعون الكلام ويتحققونه إذا دعاهم وكلمهم، فأمره ألا يكلمهم حتى يكون قريباً منهم ليتحققوا كلامه، وأنه لا يبدأهم بالقتال، بل يدعوهم أولاً إلى الدخول في الإسلام، وأن يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويخبرهم بما هو حق لله عليهم في الإسلام، وهو ما ذكرنا من وجوب الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، وغير ذلك مما هو فرض متعين، وهذه الأمور الخمسة هي أركان الإسلام التي لا بد منها، ثم إن مما يخبرهم به أنهم إذا قبلوا ذلك فإنه يكف عنهم، ويتركهم وبلادهم وأموالهم، ولا يكون له عليهم من سبيل.