للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بطلان شبهة من نفوا صفة الكلام لله عز وجل]

قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإذا قالوا لنا -يعني النفاة: فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل.

ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص والله تعالى منزه عن ذلك، ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة.

والقول الصحيح هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون: لم يزل الله متكلماً إذا شاء، كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة].

ثم قال الشارح رحمه الله: [ومعنى قيام الحوادث به تعالى: قدرته عليها وإيجاده لها بمشيئته وأمره، والله أعلم].

الأصل عند أهل السنة أن الله جل وعلا لا يوصف ولا يسمى إلا بما وصف به نفسه، أو سمى به نفسه، أو سماه أو وصفه به رسوله، ولا يجوز أن نقيسه بالمخلوقات؛ لأن الله جل وعلا غيب، لا أحد يشاهده أو ينظر إليه، وليس مثله شيء فيقاس به تعالى وتقدس.

فعلى هذا يجب أن نقف مع النص الذي يأتينا عن ربنا جل وعلا، فإذا وصف ربنا نفسه بشيء وصفناه به، وإذا سمى نفسه بشيء سميناه به، وما عدا ذلك يجب أن يرد على صاحبه مهما كان، وكلمة الحوادث لم تأت في كتاب الله ولا في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يوصف بها الرب جل وعلا؛ ولهذا يقول: هو لفظ مجمل، ولكنهم يصطلحون ويقولون: الكلام والاستواء والنزول والمجيء، وما أشبه ذلك حوادث، ونحن نقول: إنها صفات وأفعال يفعلها الله جل وعلا إذا شاء، ولا يجوز أن نسميها حوادث, وإن سميتموها حوادث وقصدتم المعنى الصحيح، فالمعنى الصحيح يجب إثباته، واللفظ الباطل يجب رده، ويجب أن يعبر عن المعاني الثابتة لله جل وعلا بالعبارات التي جاءت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولكن هؤلاء يسمون هذه الأفعال والصفات بأسماء يقصدون بها تنفير الناس عن قبولها والإيمان بها، وليس قصدهم إلا ذلك، ولهذا سموا صفات الله جل وعلا أعراضاً، وقد يسمونها أبعاضاً، فيقولون: يتعالى ربنا ويتقدس عن الأعراض والأبعاض، ومقصودهم بالأعراض: أنه لا يتصف بالسمع، ولا بالبصر، ولا بالعلم، ولا يتصف بالإرادة، ولا بالمحبة، ولا بالرضا، ولا بالبغض، ولا بالغضب، ولا بغير ذلك مما وصف نفسه به.

ومرادهم بالأبعاض: أنه ليس له يد، وليس له عين، وليس له وجه، وما أشبه ذلك من الأوصاف التي وصف بها نفسه، والذي يعرف مذهبهم يعرف ذلك، أما الجاهل الذي لا يعرف مذهبهم ومرادهم فيغتر بكلامهم ويتصور أنهم يريدون التنزيه، وهم يريدون الكفر والتنقص.

ثم إن هناك شبهاً يثيرونها في أوجه ضعاف المسلمين، أو ضعاف طلبة العلم، فيقولون مثلاً: قد اتفق العقلاء على أن الحوادث لا تحل إلا بحادث، ومن اتصلت به الحوادث يكون حادثاً، والله جل وعلا هو الأول بلا بداية، كما أنه الآخر بلا نهاية، وما سوى الرب جل وعلا هو المحدث المبتدع بعد أن لم يكن، فمثلاً يقولون عن صفة الكلام التي أنكروها: أنكرنا هذه الصفة لأنها تدل على الحدوث، وإذا قلنا لهم: ما هو الحدوث الذي تدل عليه هذه الصفة؟ قالوا: في قولك: بسم الله الرحمن الرحيم، الباء تكون قبل السين، والسين قبل الميم، وهكذا الحروف كلها متعاقبة بمعنى: أنه يأتي واحد بعد الآخر، فالباء تسبق السين بالزمن والنطق، والسين تسبق الميم بالزمن والنطق، فهذه حوادث.

إذاً نقول لهم: ما هو الكلام المعقول الذي يثبت لله عندكم؟ قالوا: أن تختلط حروفه وتجتمع أولها وآخرها، ثم تأتي دفعة واحدة، هذا هو الكلام؟! هذا لا يمكن أن يكون كلاماً، ولا يسمع ولا يعقل، ولا يعرفه ولا يفهمه المخاطب.

ثم يقولون: التعاقب يقتضي النقص، أي نقص يقتضيه التعاقب؟ بل كونه يأتي على الوجه الذي يريده، والوجه الذي يفهمه ويعقله المخاطب فإنه يقتضي الكمال، قالوا: نحن لا نعقل كلاماً إلا ما كان بلسان وشفتين ولهوات وحنجرة وحبال الصوت، لا نعقل الكلام إلا بهذا، يقال لهم: هذا كلامكم الذي تعقلونه أنتم.

فهذا دليل على أنكم تشبهون الله جل وعلا بأنفسكم، فأردتم أن يكون كلامه ككلامكم الذي تتعارفون عليه، والله أكبر وأعظم من ذلك، فيجب أن يمحى هذا التشبيه من النفس، ومعلوم أن الله لا يشبهه أحد في ذاته سبحانه، فإذا كان كذلك -وهم لا يخالفون في هذا؛ ولا يمكنهم المخالفة- فيقال لهم إذاً: الصفة تتبع الموصوف، فإذا كانت ذاته جل وعلا لا تشبه الذوات، نقول: كذلك كلامه لا يشبه كلام الخلق، وسائر صفاته لا تشبه صفات الخلق.

ثم يقال لهم: قد عقل المؤمنون الذي آمنوا بالله وبرسله أن الكلام لا يحتاج إلى ما ذكرتموه، فلا يحتاج إلى لسان ولا إلى لهوات ولا إلى شفتين، ولا إلى حنجرة، ولا إلى حبال صوتية، فقد أخبرنا الثقات الذين نقلوا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم النقل المتواتر: أن الحصى كان يسبح بين يديه، ويسمعون تسبيحه، وأن الطعام كان يسبح وهو يأكله مع أصحابه، فهل الطعام له فم أو لهوات أو حناجر أو شفاه؟ هل يستطيعون أن يثبتوا هذا؟! لا.

أبداً.

وقد جاء بالنقل المتواتر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب على جذع نخلة يابس يتكئ عليه -وكان مسجده صلوات الله وسلامه عليه أعمدته من جذوع النخل، وكان سقفه جريد النخل، وإذا هطل المطر يخر من سقفه الماء، وربما سجد في الماء والطين وهو يصلي صلوات الله وسلامه عليه -ثم بعد ذلك أمر غلاماً نجاراً من الأنصار أن يصنع له منبراً، فصنع له منبراً من أعواد الطرفاء- طرفاء الغابة -فجيء به ونصب في المسجد، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على هذا المنبر صار ذلك الجذع الهامد يحن مثل حنين الناقة إذا فقدت ولدها، حتى سمع أهل المسجد كلهم حنينه، وبقي يحن حتى نزل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم واحتضنه، فهدأ كما يهدأ الطفل الذي يبكي إذا أخذته أمه، فهل هذا الجذع له لسان وفم وشفاه؟! وكذلك يخبرنا ربنا جل وعلا عن الأشقياء بقوله: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} أي: جاءوا إلى جهنم، {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:٢٠ - ٢٢] يعني: ما كنتم تفعلون التقوى التي تمنعكم من هذا، وكذلك يقول جل وعلا: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:٦٥] الأيدي تتكلم، والأرجل تتكلم، ويقول الله جل وعلا: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:١ - ٤] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحديثها بأخبارها أنها تشهد بما صنع عليها) أي: أن المكان نفسه يشهد على هذا الإنسان فيقول فعل عليّ كذا يوم كذا في وقت كذا وكذا، هذه أخبارها التي تحدثها، وذلك بأن ربك أوحى لها.

ويقول جل وعلا في قصة داود أنه سخر الطير والجبال تسبح معه، ويقول جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤] ويخبر جل وعلا أن الشجر يسجد، وأن النجوم تسجد، وأن الشمس والقمر يسجدان، وجاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس وقال لـ أبي ذر: (أتدري أين تذهب؟ فقال: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تذهب حتى تكون عند العرش، فتسجد وتستأذن في المضي، فيوشك أن لا يؤذن لها، ثم يقال لها: ارجعي من حيث جئت فترجع وتطلع من المغرب، عند ذلك إذا شاهدها الناس آمنوا كلهم) ولكن لا ينفعهم إيمان.

وهناك أشياء كثيرة لا حصر لها تتكلم وتنطق، وتسبح وتخضع وليس لها ألسن ولا أرجل، ولكن نحن لا نعقل كلامها.

إذا ثبت هذا في المخلوق فكيف يتصور أن كلام الرب جل وعلا ككلام المخلوق؟! فيجب أن ينزه الله عن ذلك، ويجب أن يكون له الكمال المطلق، والأدلة على هذا أكثر من تحصر، ولكن تكفي الإشارة.