للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل الإحسان إلى الوالدين]

قوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣] يعني: وأمر أن تحسنوا بالوالدين إحساناً، وهنا حذف الفعل: (أحسنوا) وجاء بالمصدر (إحساناً) ليدل على أن الأمر يلزم منه كل ما يسمى إحساناً.

فيدخل فيه كل الإحسان الذي تستطيع أن تفعله.

وجاء في آيات متعددة أن الله جل وعلا يقرن الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالأمر بعبادته، وهذا يدلنا على تعظيم حق الوالدين؛ ولهذا جاء أن العقوق مدعاة إلى دخول النار، فالذي يعق والديه ويجعل بدل الإحسان إساءة يكون متوعداً بالنار، نسأل الله العافية.

وجاءت أحاديث كثيرة توضح هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بالكبائر عد منها عقوق الوالدين، فمن أكبر الكبائر عقوق الوالدين، وكذلك حديث علي رضي الله عنه في الصحيح أنه لعن الذي يلعن والديه فقال: (لعن الله من لعن والديه)، وفي رواية: (من سب والديه)، وفي حديث أنهم استغربوا كيف يلعن الرجل والديه! فبين أنه بكونه سبباً للعن والديه فقال: (يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه)، فيكون ملعوناً بهذا الفعل، ومنها أحاديث كثيرة فيها الأمر ببر الوالدين، وكذلك النهي عن عقوقهما، وهي معروفة مشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا في الواقع يفرط فيه كثير من الناس، وفي حديث صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر وقال: آمين آمين آمين -ثلاثاً- فسئل عن هذا، فقال: أتاني جبريل عليه السلام فقال: رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، قل: آمين، فقلت: آمين.

ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين.

ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين) يعني أنه لم يبرهما حتى يستحق ببرهما دخول الجنة، وكذلك أحاديث أخر كثيرة ثابتة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وجوب طاعة الوالدين في غير المعصية، أما إذا أمرا بمعصية فلا يجوز طاعتهما في ذلك، والقرآن واضح في هذا في آيات متعددة، الله جل وعلا يقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:١٤]، فقرن شكره بشكر الوالدين، وهذا من آكد ما يبين حق الوالدين على الولد، وهنا يقول جل وعلا: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} [الإسراء:٢٣] واحد منهما الأم أو الأب أو كلاهما {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:٢٣]، ذلك أنه إذا كبر الوالد فإنه يكون محلاً للأذى وما يتأفف منه؛ لأنه يعود ضعيفاً كما كان، فقد لا ينزه نفسه، ولا يستطيع أن يستقل بما ينبغي أن يفعله بنفسه، فقال: (ولا تقل لهما: أف)، والأف معناه: أن يتأفف من رائحة أو من قول أو من فعل، أو ما أشبه ذلك.

يعني: لا يصدر منك ما يدل على التضجر منهما.

وقد قال بعض السلف: لو أن الله جل وعلا علم شيئاً أدنى من التأفف لنهى عنه! {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:٢٣] أي: لا تنهرهما في الكلام.

يعني: ترفع صوتك عليهما.

وهذا لا يجوز، وأمر جل وعلا أن يقول لهما قولاً كريماً ليناً سهلاً داعياً لرضاهما، ثم أمر بالاستغفار لهما، سواء كانا حيين أم ميتين، يستغفر لهما، ويحسن إليهما الإحسان الدنيوي والإحسان الأخروي.

ونبه جل وعلا على أن الوالدين قد أحسنا إليك سابقاً، وهما يرجوان قوتك ورشدك وشدتك، أما أنت إذا أحسنت فأنت ترجو موتهما وراحتك منهما، فلا ينبغي أن يكون بدل الإحسان إساءة.

قال تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:٢٤] يعني: بدل التربية والسهر والكد ينبغي لك أن تحسن إليهما.

ويذكر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه -وبعضهم يذكره حديثاً مرفوعاً- رأى رجلاً يحمل أمه وهو يطوف بها في الطواف حاملها على ظهره ويطوف بها، فقال له: أتراني قد أديت حقها؟ فقال: لا، ولا بطلقة يعني: ما كانت تقاس الشدة بوضعك ولا بطلقة مما حدث لها.

وما يستطيع الإنسان أن يقوم بحق والديه، ولكن إذا أحسن وقام بما يستطيع فالله جل وعلا يعفو عنه ويثيبه، ولشده حق الوالدين وعظمه على الإنسان فإن الله جل وعلا غالباً يعجل عقوبة العاق مع ما يعد له في الآخرة نسأل الله العافية، وغالباً إذا عق الإنسان والديه فأبناؤه يعقونه، وقد جاء عن ثابت البناني -وهو تابعي من تلامذة أنس بن مالك الذين لازموه وأخذوا عنه الحديث- أنه رأى رجلاً في البصرة يضرب أباه، فاستعظم هذا وأراد أن يعاقبه، فالتفت إليه الوالد المضروب وهو يضرب ورفع رأسه إليه.

وقال: دعه.

فلقد كنت أضرب أبي في هذا المكان! يعني: كما صنع صنع به، وهل يكفي هذا؟ لا يكفي، ولو كفى لكان أمراً سهلاً، ولكن هناك عذاب الله نسأل الله السلامة، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:٢٢ - ٢٣]، وأعظم قطيعة للرحم عقوق الوالدين، ولا أعظم منها في قطيعة الرحم، فليحذر الإنسان كل الحذر من أن يغضب والديه أو يجلب لهما ما يسوؤهما؛ فإن هذا في الواقع أمر يقع لكثير من الناس، كثير من أبناء المسلمين يقع لهم هذا الشيء، نسأل الله العافية، وهو خطير جداً، وقد لا يتنبهون له، وعواقبه وخيمة في العاجلة والآجلة، وآيات الله في هذا واضحة جداً، أعني وجوب مراعاة الوالدين والقيام بحقوقهما وطاعتهما في طاعة الله جل وعلا والإحسان إليهما إحساناً مطلقاً في الحياة وكذلك بعد الممات، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون حرصاً شديداً على أداء حقوق الوالدين، حتى كان إذا توفي والد أحدهم صار يبر أصدقاءه، وهذا من بره، كما جاء في الحديث: (أن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه).

قال رحمه الله: [قال مجاهد (قضى) يعني: وصى.

وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهم، ولـ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه: (وقضى ربك) يعني: أمر.

وقوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٢٣] المعني: أن تعبدوه وحده دون ما سواه، وهذا معني (لا إله إلا الله)].

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا إله إلا الله)، ويقول: (سبحان الله)، (الحمد لله)، (الله أكبر)، وما أشبه ذلك من الذكر الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوله ويعلم أمته، وأعظم الذكر ما قاله صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، فهذا هو أفضل الذكر، أفضل ما يذكر الإنسان ربه به، وذلك أن التوحيد هو أفضل العبادة، وكثير من الناس يعدل عن هذا الذكر إلى غيره والفضل فيه في الواقع، وهو أفضل من غيره، ولكن الذكر باللسان فقط دون معرفة القلب ودون العمل فائدته قليلة، وقد لا يفيد، فينبغي للإنسان أن يتعرف على معاني ما يقوله ويعمل به.