للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قول ابن المسيب في النشرة]

قال المصنف رحمه الله: [وفي البخاري عن قتادة: قلت لـ ابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه].

سعيد بن المسيب رحمه الله من الذين يقولون بجواز حل النشرة، وعلته ما ذكر، وهو قوله: إذا كانوا يريدون به الإصلاح -يعني: إصلاح ما أفسده السحرة- فلا بأس به، أما إذا كان خلاف ذلك فهو محرم، ولكن هذا يفتقر إلى دليل، والأدلة على خلافه، ومنها ما ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)، ومن المعلوم الذي لا يشك فيه من يعرف الشرع أو بعض أحكامه أن السحر من المحرمات، ومنها أن الذهاب إلى الساحر والرضا بفعله يعتبر تقريراً له، وتقرير الفاعل على الفعل يجعل المقرر له مشاركاً له في الفعل فيكون مثله، ولهذا أخبرنا ربنا جل وعلا أن الذين يجلسون مع من يستهزئ بآيات الله أنهم مثل المستهزئ، والمستهزئ كافر، وكان يجب عليه إذا جلس مع المستهزئ أن ينكر عليه، وكذلك الموالاة، كون المسلم يكون مع الكافر غير مظهر له العداوة والبغضاء، وإن كان يكره ذلك في نفسه فإنه يكون مثله؛ لهذا يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:٥١] أي: فهو منهم.

ويقول جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:٢٢].

ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:١].

وهناك آيات كثيرة تدل على أن الإنسان يجب عليه أن ينكر فعل المخالف ويبغضه، أما إذا جلس معه وأقره أو ذهب إليه وتركه على ما هو عليه فإنه يكون مثله كما قال جل وعلا: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:١٤٠] يعني: إذا جلس الإنسان مع من يسعى إلى الكفر ويسعى إلى المعاصي ولم ينكر عليه -وإن كان يبغض ذلك ويكرهه في قلبه- فإنه يكون مثله؛ لأن الله ميز المؤمنين من الكافرين، فكيف يجوز أن يذهب إلى الساحر حتى يحل السحر عنه؟! هذا إقرار له، ودين الله لا يقبل التجزئة ولا المداهنة فيه، فالصواب المنع من هذا.

[قوله: عن قتادة هو ابن دعامة بكسر الدال السدوسي ثقة فقيه من أحفظ التابعين قالوا: إنه ولد أكمه، مات سنة بضع عشرة ومائة].

قوله: (ويؤخذ عن امرأته) يعني: أنه يعمل له سحر يمنع به أن يصل إليها، كما يفعله كثير من الناس، يعملون السحر لأجل ذلك، وهذا يعمله من لا خلاق له في الآخرة من الفسقة والظلمة الذين لا يخافون الله ولا يراقبونه، وإنما يريدون أن يوقعوا الضرر بمن يحسدونه على شيء من أمور الدنيا؛ لذلك يرتكب هذا الجرم الذي يذهب بحسناته، وقد يجعله من أهل النار نسأل الله العافية.

أما المؤمن المتقي فإنه يخاف الله ولا يفعل شيئاً من ذلك، إنما يفعله فسقة المسلمين؛ لأنه في الواقع جاهل لا يعرف العاقبة، ولا يعرف ما يئول إليه الأمر، فلو كشف عن سوء فعله لهانه ذلك أشد الهون.

فمن (يؤخذ عن زوجته) ويمنع من قربانها بواسطة السحر؛ فعلاجه يكون بالرقى الشرعية والأدوية المباحة، أما السحر فلا يجوز تعاطيه.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: رجل به طِب، بكسر الطاء أي: سحر، يقال: طُب الرجل بالضم إذا سحر، ويقال: كنّوا عن السحر بالطب؛ تفاؤلاً كما يقال للديغ: سليم.

وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال: لعلاج الداء: طب، والسحر من الداء ويقال له: طب.

قوله: (يؤَخَّذ) بفتح الواو مهموزةً، وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة، أي: يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها، والأُخذة -بضم الهمزة- الكلام الذي يقوله الساحر.

قوله: (أيُحل) بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول.

قوله: (أو ينشَّر) بتشديد المعجمة.

قوله: (لا بأس به) يعني: أن النشرة لا بأس بها؛ لأنهم يريدون بها الإصلاح أي: إزالة السحر، ولم ينه عما يراد به الإصلاح، وهذا من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم أنه سحر].

يعني: أن كلام سعيد بن المسيب يحمل على نوع لا يكون من السحر، وهذا تأويل، ولكن الظاهر أنه يقصد به السحر؛ لأنه قال: (أما ما ينفع فلا) يعني: فلا يمنع منه (إنما يريدون به الإصلاح)، فهو ظاهر في أنه يريد السحر، ولكن قال هذا: (إنه يحمل على نوع ليس من السحر) حتى يتفق مع الأدلة ومع قول جمهور العلماء، هذا مقصوده، وعند العلماء قاعدة يسيرون عليها، إذا جاء عن أحد العلماء كلام يخالف الدليل فإنه يحمل على أحسن المحامل، ولا يظن بالعلماء أنهم يخالفون الدليل فهذا منه، فلهذا قال: إنه يحمل على نوع ليس من السحر.