للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام ابن تيمية على منزلة المال عند المسلم]

قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، وذكر فيه ما هو دعاء عليه بلفظ الخبر، وهو قوله: (تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه.

وهذا حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه: (إن أعطي رضي، وإن منع سخط)، كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:٥٨]، فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله.

وهكذا حال من كان متعلقاً منها برئاسة أو بصورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده - إلى أن قال: وهكذا أيضاً طالب المال، فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان: فمنها ما يحتاج إليه العبد، كما يحتاج إلى طعامه وشرابه، ومنكحه ومسكنه، ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله، ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، من غير أن يستعبده فيكون هلوعاً.

ومنها ما لا يحتاج إليه العبد، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبداً لها، وربما صار مستعبداً ومعتمداً على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله.

وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، وهذا هو عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله: من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، فهذا الذي استكمل الإيمان انتهى ملخصاً].

هذا الكلام ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العبودية، وكلامه في منزلة المال عند الإنسان، يقول: المال يكون عند الإنسان على قسمين: أحدهما: الشيء الذي لابد له منه مثل المسكن والطعام -المأكل والمشرب- والملبس ونفقة الزوجة وما أشبه ذلك.

فهذه يجب أن تكون مطلوبة من الله جل وعلا، ولا يتعلق قلبه بها، وإنما تكون لأجل الحاجة؛ لأنه محتاج إلى ذلك، ولكن لا تشغله ولا تصده عن عبادة ربه، وكون قلبه خالصاً لربه لا تأخذ شيئاً منه، فتكون هذه بمنزلة الحمار الذي يركبه، ولو قلنا السيارة فإنه يمكن أن يتعلق قلبه بها، وتجده إذا كانت مثلاً جميلة ينظفها، بل ينبغي أن يكون المال بمنزلة الحمار الذي يركبه.

ثم يقول بعد هذا: بل يجب أن يكون المال عند المؤمن بمنزلة المحل الذي يقضي فيه حاجته ولا يتعلق به قلبه نهائياً؛ لأنه إذا تعلق به القلب لابد أن يعمل من أجله، ثم يأخذ شعبة من قلبه فيصبح عنده شيء من العبودية لغير الله جل وعلا، فالعبودية الخالصة أن تكون لله وحده، وهذا هو الذي يكون كامل الإيمان، وهو الذي إذا بعث يوم القيامة يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، أما إذا كان قلبه قد تشعب شعبة للمال، وشعبة للعمل، وشعبة للرئاسة، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتعلق بها، فإنه ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)، إلى آخره.

يعني: عنده عبادة لغير الله جل وعلا، وهذه تختلف: إما أن تكون عبادة كاملة فيصبح ممن تشمله الآية ويدخل فيها أو تكون عنده خصلة من خصال العبادة، فقد تكون كبيرة، وقد تكون صغيرة، فالناس يتفاوتون في هذا، فهذا الشيء الذي يحتاجه ينبغي أن يكون بهذه المنزلة، والأمور الضرورية ينبغي أن تكون للمؤمن بهذه المنزلة، أما الأمور التي لا يحتاجها وهي فضلة زائدة، فهذه يقول: إنها عذاب يعذب بها الإنسان، وكونه يعمل ويجمع لها فإنه يصير خادماً لها -يعني: عبداً لها- ويصبح أقل ما يقال فيه إنه صد عن عبادة الله وأعرض عنها إلى عبادة ما يضره ولا ينفعه، وسوف يخدمه ويتعب نفسه وبدنه في جمعه وحراسته ثم يأكله غيره وينتفع به غيره.

وقد يسعد به غيره فتكون عليه الحسرات، إذا وجد من سعد بالشيء الذي شقي هو فيه تصبح عليه الحسرة فقط، وقد يشقى فيه غيره أكثر من شقائه، وذلك بأن يعصي الله جل وعلا فيه، فيكون عليه شيء من التبعات، فهو لا ينفك عن المسئولية، لماذا؟ لأنه في الواقع خرج عن الشيء الذي طلب منه، وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يجوز أن يعمل على وجود المال، وإنما لا يجوز أن يطلبه من الأمور المحرمة، وألا يمنعه المال من أداء الواجبات، ويجب ألا يدعوه المال إلى ارتكاب المحرمات، فإذا لم يكن يدخل في ذلك -يعني: ما منعه جمع المال من ترك واجب، ولا حمله على فعل محرم- فإنه يكون سالماً وليس مذموماً، ولكن الغالب في صاحب المال أنه لا يسلم من أحد شيئين: إما ترك واجب، وإما فعل محرم من أجل المال.

وهذا أمر مشاهد، حتى إن كثيراً من الناس يثقل عليه كثيراً إخراج الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام لمحبة المال، وبعضهم قد لا يخرجها؛ لأنه قد يستكثرها مثلاً مع أنها ليست كثيرة، فيمنعه حب المال من إخراج الزكاة، وهذا في الواقع قد أخذ المال شعبة كبيرة من قلبه، فأصبح القلب متعبداً له، وكذلك قد يبخل في أداء الواجب من المال ويعجز، وإن لم يكن مثل الذي منع الزكاة، ولكنه يكون عليه من إثم ذلك بحسب ما منعه من الواجب، سواء كان الواجب يتعلق بمن يجب عليه نفقته أو يتعلق بغيره، فإذا كان الإنسان عبداً لله جل وعلا خالصاً فيكون المال عنده بمنزلة الشيء الذي لا يؤبه له، ولا يتعلق قلبه به؛ لأنه يعمل في هذه الدنيا للدار التي سيسكنها سكنىً لا تنقطع، فهو يعمل على عمارة تلك الدار بكل وسيلة، بالبدن وبالمال الذي يكون بعض الناس خادماً له وعبداً له، فهو إذا كان عبداً لله يستخدم المال ويوظفه لأعماله التي تكون مرضية لربه جل وعلا.

فالإنسان لا ينفك إما أن يكون بهذه الصفة أو يكون بالصفة الأخرى، وكل إنسان يجد من نفسه شيئاً من ذلك، ولابد من المجاهدة والعمل والكدح، فإن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦]، والكدح: إما أن يكون في الخير أو يكون في الشر، ولابد من ملاقاة الله جل وعلا، ثم محاسبته وجزاؤه على الكدح الذي كدحه الإنسان.