للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فتنة السراء والضراء وبيان أيهما أعظم]

قال الشارح رحمه الله: [قال ابن كثير رحمه الله في معنى قول الله تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر:٤٩]].

(خولناه) يعني: أعطيناه وخصصناه، فكل نعمة تقع للإنسان فهي من الله، وأكبر نعم الله وأعظمها على العبد أن جعله مسلماً، فهذه النعمة أعظم النعم على الإطلاق.

أما كونه يكون صحيحاً معافىً واجد المال والمتاع والمسكن والزوجة وما أشبه ذلك، فهذه تزول بسرعة ولا تبقى، ولكن نعمة الإسلام هي التي تستمر معه إلى أن يحصل له بسببها الحياة السرمدية، والنعيم عند الله جل وعلا، ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يقوم بشكر هذه النعمة، ولا غيرها من النعم، وإنما إذا اعترف لربه جل وعلا بالتقصير، وخضع له، ونسب له الفضل، واستعمل ذلك في طاعته، فإن الله كريم يقبل اليسير ويعفو عن الكثير.

[يخبر أن الإنسان في حال الضر يضرع إلى الله تعالى، وينيب إليه ويدعوه، ثم إذا خوله نعمةً منه طغى وبغى وقال: (إنما أوتيته على علم)، أي: لما يعلم الله من استحقاقي له، ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا.

قال الله عز وجل: (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) أي: ليس الأمر كما زعم، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه].

المقصود بالفتنة هنا: الاختبار، أي: يعطى النعم ليظهر شكره من كفره، وإلا فالله علام الغيوب لا يخفى عليه شيء، يعلم أن هذا المخلوق سوف يكفر وهذا سوف يشكر، لا يخفى قبل وجود ذلك، ولكن من فضله وكرمه وتمام عدله أنه لا يؤاخذ بمجرد علمه، وإنما يؤاخذ بالعمل الظاهر الذي يبرز ويظهر، ويكتب في الصحف، وتشهد عليه الملائكة وتعمله الجوارح، هذه الفتنة فتنة النعم.

وفتنة النعمة أعظم من فتنة الضراء؛ لأن الإنسان كما قال الله جل وعلا: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:٦ - ٧]، إذا وجد الغنى تكبر وطغى، أي: ارتفع على غيره، فالطغيان المقصود به: الارتفاع والعلو على أبناء جنسه، فيتعالى عليهم بما أعطي من النعم، وهذه طبيعة الإنسان إلا من مَنّ الله جل وعلا عليه بالهداية.

وأما الضراء فغالباً أنه يستكين، ويذل ويخضع، ويعرف قدره، فيكون هذا طريقاً لمعرفة الله جل وعلا، فلهذا صارت فتنة السراء أشد من فتنة الضراء، وفتنة الضراء قد يكفر بعض الناس بسببها ويتسخط أمر الله وقدره ويقول: أنا ما أستحق هذا، أنا مظلوم، يعني: أن الله ظلمه، نسأل الله العافية! فإذا وصل إلى هذا الحد فمعنى ذلك أنه كفر بالله جل وعلا، ورأى أن الله يظلم عبده، وهو يزكي نفسه على ربه، ويرى أنه مطيع وقائم بالواجب، وهذه نهاية الكفر نسأل الله العافية.

فالمقصود: أن الابتلاء لابد منه، إما أن يكون بهذا أو بهذا، حتى يتبين عمل الإنسان ظاهراً، يتبين لكل من يرى، يتبين للملائكة، ويتبين له هو، ويتبين لمن يكون مشاهداً له، فهذا الذي يؤاخذ عليه، فكونه جل وعلا يبتليهم بهذا ليظهر ذلك الذي هو كامن في نفوسهم، وقد علمه الله جل وعلا قبل وجودهم، وكتبه، ولكنه لا يقع إلا بعملهم وبتصرفهم.