قال الشارح رحمه الله تعالى: [أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثرها أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها، كالهجرة والجهاد ونحو ذلك.
قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: أي: إن كانت هذه الأشياء {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا}[التوبة:٢٤] أي: انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه، روى الإمام أحمد وأبو داود -واللفظ له- من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)].
العينة هي أن يبيع الإنسان سلعة بقيمة مؤجلة، ثم يشتريها من المشتري بثمن أقل مما باعها به، فهو عين الشيء الذي بيع، اشتري بثمن أقل من الثمن الذي باعه به، وهذا من أنواع الربا في أي شيء كان، سواء كان بيتاً أو سيارة أو طعاماً أو غير ذلك، فكل من فعل ذلك فقد وقع في العينة، وهو نوع من الربا الذي يقول الله جل وعلا فيه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}[البقرة:٢٧٨]، ذروه يعني: اتركوه وابتعدوا عنه، وأخبر جل وعلا أن الذي يأتيه أمر الله ثم لا يجتنب الربا فإنه محارب لله ولرسوله.
أما اتباع أذناب البقر فمعناه أن الناس يشتغلون بالزرع، وبأذناب البقر؛ لأن البقر كان يحرث عليها الأرض، فمعنى ذلك أن الاشتغال بالزرع هو ترك الجهاد في سبيل الله، ولهذا قال:(ورضيتم بالزرع)، وفي الصحيح عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه لما كان في قتال الروم في زمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان عليهم يزيد بن معاوية وكانوا محاصرين للقسطنطينية قريباً منها، وكان الروم أمامهم، والمسلمون مقابلون لهم، فخرج رجل من المسلمين يعدو حتى انغمس في صفوف الروم، فقال الناس: سبحان الله! ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: ليس كما تقولون، إن هذه الآية:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة:١٩٥] نزلت فينا معشر الأنصار، وذلك أننا لما نصر الله جل وعلا رسوله، وفتح عليه، قال بعضنا لبعض: هلم لنصلح زراعتنا وفلاحتنا، فقد نصر الله جل وعلا رسوله، فأنزل الله جل وعلا:{وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة:١٩٥]، فالتهلكة: هي الخلود إلى الدنيا، وإصلاح أمور الدنيا، فبين الله أن التهلكة هي الحرث والزراعة وترك الجهاد في سبيل الله جل وعلا، وهذا أيضاً هو معنى قوله:(ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله)، وقوله:(سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى تراجعوا دينكم)، لأن المسلمين حينئذ يخافون أعداءهم خوفاً شديداً، ويذلون لهم، ويبذلون لهم الطاعة، وقد يبذلون لهم الأموال، وقد يسلط الله عليهم الأعداء ويأخذون ما بأيديهم، والرسول صلى الله عليه وسلم نصره الله بالرعب مسيرة شهر، فمن الخصائص التي خصه الله بها من بين الأنبياء: أنه أعطاه الرعب في قلوب العدو مسيرة شهر، يخافه العدو وإن كان بينه وبينهم مسيرة شهر، وهذا يكون أيضاً للمؤمنين الذين يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم إذا صدقوا، أما إذا تخلوا عن طاعة الله، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكون لهم ذلك، بل تنعكس القضية فيصبحوا أذلاء خائفين، يخافون أن يأخذ العدو ما بأيديهم، ويتسلط عليهم، هذا الواقع الذي إذا نظر الإنسان إليه وجده كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، صلوات الله وسلامه عليه.
قال رحمه الله: [فلابد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده، فيحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه، ويوالي فيه، ويعادي فيه، ويتابع رسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في آية المحنة ونظائرها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) أخرجاه أي: البخاري ومسلم].
(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده ووالده والناس أجمعين)، هذه محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، قوله:(لا يؤمن أحدكم)، يعني: الإيمان الذي تكون به النجاة من عذاب الله، لا يحصل للإنسان الإيمان الذي ينجو به من عذاب الله حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده وجميع الناس.