للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الذبح عبادة، وصرفها لغير الله شرك]

النسك مأخوذ من النسك وهو: التعبد، فإذا تعبد الإنسان قيل: إنه ناسك ومتنسك، والتعبد يكون بأنواع شتى، وجامع العبادة: أن تكون مأموراً بها، سواء أمر إيجاب أو أمر استحباب، أو يكون يثنى على صاحبها ويكون ممدوحاً، مما يدل على أن الله يحبه، وكل فعل أثنى الله جل وعلا على فاعله فهو داخل في العبادة؛ لأنه يحبه ويرضاه، فالذبيحة لا يجوز أن تكون مأكولة وحلالاً حتى تشتمل على التعبد لله جل وعلا بأي نوع كان، سواء كانت مما يذبح في مناسك الحج أو مما يذبح في أي مكان كان، فلابد أن يكون فيها عبادة لله جل وعلا، بأن يسمي الله جل وعلا عند ذبحها، وأن يكون الذابح أهلاً للذبح، ويكون مسلماً أو يكون ممن يؤمن بالله واليوم الآخر وله دين ثابت مثل اليهود والنصارى إذا لم يكونوا ملاحدة مشركين، وإلَّا لا تحل الذبيحة بحال من الأحوال، فإذا ذبحها مرتد لا يصلي أو ذبحها مشرك أو ملحد -وإن قال: باسم الله- فإن ذبيحته تكون حراماً؛ لأنه ليس من أهل الذبح.

إذاً: الذبيحة فيها تعبد لله، وكل عمل يعمله المسلم يجب أن يكون متعبداً فيه، وكل عمل يجب أن يكون لله وإن كان من أمور الدنيا، حتى الأكل إذا أكل الإنسان فينبغي أن يسمي الله، وأن يشكر الله على نعمته؛ لأنه هو الذي وهبه، وهو الذي أسداه لك، وهو الذي أساغه، وهو الذي يبقي فيك منفعته ويذهب عنك مضرته، فوجب أن تشكره على ذلك.

وأما الذبيحة إذا أريد بها التقرب فهي عبادة محضة، وإذا جعلت لغير الله فهي من الشرك الأكبر، فمراد المؤلف أن يبين أن هذا منافٍ لقول: لا إله إلا الله، فإذا ذبح الذابح عند قبر يرجو نفعه أو لولي أو لجنيٍ أو ما أشبه ذلك -وإن قال: باسم الله- فالذبيحة مهل بها لغير الله جل وعلا فهي شرك، وهذا الذابح يكون مشركاً، وهذه الذبيحة حرام أكلها؛ لأنها أولاً: مما أهل به لغير الله، وثانياً: أنها أصبحت ذبيحة مرتد أرتد عن الإسلام بهذا الذبح، وإن كان قبل ذلك مسلماً.

وهذا بين واضح في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد كان المشركون يذبحون عند أصنامهم متقربين إليها، وهل تقربهم لهم بأن يذبحوا هذه الذبيحة ولا يأكلونها؟

الجواب

لا، بل يريقون الدماء تقرباً إلى هذا المعبود، ثم يأكلون الذبيحة ولا يدعونها لهذا الصنم أو لغيره، ومع ذلك تكون عبادة تُوجه لغير الله جل وعلا، ويكون الذابح بذلك مشركاً.

ثم إن هذه العبادة من أعظم العبادات، ولهذا شرع للمسلمين أن يتقربوا إلى الله جل وعلا بالذبح في الأضاحي وفي الهدايا التي تهدى إلى البيت، والواقع أنها تهدى لله، ولكنها تذبح هناك في المشاعر التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنذبح فيها.

وكذلك العقيقة، والنذر، وغير ذلك مما يفعله الإنسان متقرباً به إلى الله، فهذا من أجل العبادات وأعظمها؛ وذلك لأنه إذا بذل ماله وأقدم على ذبح الحيوان متقرباً به إلى الله مع رحمته له ومع محبته للحيوان فإن حب الله وعبادة الله له تدعوه إلى أن يقدم على ذلك مختاراً مغتبطاً، ويكون بذلك عابداً لله جل وعلا بهذه الذبيحة.

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الذبح لله جل وعلا كما كان كثيراً ما يصلي لله جل وعلا، وهذا هو سر قرن الذبيحة بالصلاة، وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) يعني: ذبائحي التي أذبحها لله، فأنا أتبرأ مما يفعله المشركون وأراغمهم حيث إنهم يذبحونه لأصنامهم، وأنا أذبح لربي متقرباً بذلك إليه، ومخالفاً لهم، ومعادياً لهم على فعلهم ذلك.

وقوله: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ) يعني: كل أعمالي التي أفعلها في حياتي أفعلها تعبداً لله جل وعلا، وكذلك: (وَمَمَاتِي) أي: ما أموت عليه وما أقدمه بعد حياتي هو خالص لله، لا شريك له في كل أعماله وتصرفاته الظاهرة والباطنة.

وقوله: (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) يعني: أن هذا أمر من الله، وأنه يتعين، وليس للعبد في ذلك اختيار، فإذا لم يفعل ذلك فقد عصى الله جل وعلا، وسوف يعاقبه.

وقوله: (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) أي: أمر من الله حتم يجب أن يطاع ويتبع، وإلا فسيكون الإنسان ضالاً وخاسراً، وسوف يلاقي الله جل وعلا، ثم يعاقبه على ذلك.

وقوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) الإسلام معناه: هو الاستسلام والانقياد لله، وأن يسلم وجهه وقواه وجوارحه لله منقاداً مطيعاً غير معترض على الله، وغير متمرد عن أمره، بل يفعل أمره مذعناً خاضعاً ذالاً معظماً لله جل وعلا، هذا هو معنى الإسلام: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي: الذين يفعلون ذلك على هذه الصفة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول من أطاع الله من هذه الأمة، وإلَّا فالرسل الذين قبله كلهم على الإسلام كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك في كتابه، وأن كل رسول يقول لأمته: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩] وهذا هو الإسلام.

وقوله في الآية الأخرى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:٢] هذه مثل التي قبلها، حيث قرن النحر بالصلاة، وهو النسك المذكور في الآية السابقة؛ ولهذا قال بعض المفسرين: إن المقصود بالصلاة هنا: صلاة العيد خاصة؛ لأنها هي التي يعقبها النحر، والصواب: أن هذا عام في كل صلاة، وكذلك النحر عام في كل نحيرة، يجب أن يكون لله جل وعلا، وأن يكون خالصاًً له.

وأما ما روي في الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل لما نزلت هذه الآية فقال: (ما هذه النحيرة التي أمرت بها؟ فقال جبريل: إنها ليست نحيرة وإنما هي وضعك يديك في الصلاة على نحرك) فهذا حديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله الواضعون الكذابون الذين يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي نحيرة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: كل ذبيحة يذبحها متقرباً بها إلى الله جل وعلا، وكذلك إذا ذبحها للأكل فإنها تكون لله؛ لأنه يذبحها لله، ولكن الذبيحة التي تقدم إما نذراً أو أضحية أو نسيكة في الحج تكون أكمل وأعظم من الذبيحة التي تذبح لأجل أن يؤكل لحمها؛ لأنها عبادة محضة قدمت لله جل وعلا.

فهذا واضح جلي في كون الذبائح إذا ذبحت لغير الله فهذا الذبح شرك، وهذا مثل الصلاة إذا صليت لغير الله، فلا فرق بين هذه وهذه حيث قرنت الذبيحة بالصلاة، وأمر الله أن تكون له وحده جل وعلا.

فعلى هذا إذا ذبح الإنسان عند القبر أو ذبح للجني كأن يقول له دجال من الدجاجلة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل: إن هذا المريض فيه جني لا يخرج حتى تذبحوا له ذبيحة، وقولوا: باسم الله، وفرقوها على كذا وكذا، وعلى الفقراء أو غيرهم، فهذا شرك أكبر؛ لأنها قصد بها الجني، وذبحت له، فيجب أن تكون الذبيحة لله وحده، مراداً بها وجه الله، وسواء كانت الذبيحة بعيراً أو بقرة أو شاة أو دجاجة أو غير ذلك من أي نوع كان مما يذبح؛ إذا ذبح وقصد به غير الله جل وعلا فإنه يكون شركاً.

وكذلك الذين يذبحون عند القبور، ويقصدون التقرب إلى الأموات والنفع الذي يرجونه منهم، وإن كانوا يذبحونها ويأكلونها أو يفرقونها؛ فإنها تكون مما أهل به لغير الله، ومما تقرب به لغير الله، وإن كان يذكر عليها اسم الله عند الذبح؛ لأن المراد النية، والألفاظ والأسماء لا تغير من المعنى شيئاً، فإذا ذبح الإنسان ذبيحة وقال: باسم الله، ولكن نيته أنها لغير الله فإنها تكون مما أهل به لغير الله، كما أن النصراني -مثلاً-: إذا ذبح للمسيح وقال: باسم الله فإن ذبيحته حرام، وهي مما أهل لغير الله جل وعلا، وهذا باتفاق العلماء لا أحد يخالف في ذلك، وهو واضح وظاهر من النصوص ومنها هاتين الآيتين.