للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحوال الناس في انتفاعهم بالعلم]

جاء في حديث أبي موسى الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مثل أمته وما بعثه الله به مثل الغيث-المطر- يقع على الأرض، فتكون على طوائف ثلاث: طائفة منها تربتها طيبة، فقبلت الماء وأنبتت الكلأ، فرعى الناس وانتفعوا.

وطائفة أخرى من الأرض لا تنبت، ولكنها أمسكت الماء، فورد الناس واستقوا وانتفعوا بالماء.

وطائفة أخرى لا تقبل الماء ولا تمسكه، مثل: السباخ، لا نبات ولا إمساك، فهذه أحوال الذين لا يهتمون بالدين الإسلامي، ولا يرفعون به رأساً، وهم أكثر الناس.

أما الأولى فهي مثل الفقهاء الذين إذا علموا نصاً للنبي صلى الله عليه وسلم استنتجوا منه الأحكام الكثيرة، التي ينتفعون بها وينفعون بها غيرهم، والطائفة التي تمسك الماء مثل الحفاظ الذين حفظوا على الأمة النصوص والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحفظوها وأدوها إلى من هو أفقه منهم، فنفعوا بهذا الحفظ.

أما الطائفة الثالثة: فهي لا تنتفع في نفسها ولا تنفع غيرها، فهؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة، وأما الناجون فهم الطائفة الأولى والثانية.

فالمقصود اختلاف الناس في الفهوم والحفظ، وبسبب ذلك حدثت الخلافات بين المسلمين.

ويجب على الإنسان أن يتقي الله إذا كان له إمام أو شيخ فقال قولاً خالف الحق، وتبين لمتبوعه أنه مخالف للحق، فإنه يجب عليه ألا يتبع شيخه أو إمامه؛ لأنه تبين له أنه خالف الحق؛ لأن الإنسان مكلف باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا بقول فلان ولا بقول فلان، وإنما استعانوا بأقوال العلماء إلى الوصول إلى الحكم الذي حكم به الله جل وعلا، وحكم به رسوله، وهذا من أصول العقيدة التي يجب على العبد أن يهتم بها، وذلك التحليل والتحريم من خصائص الله جل وعلا، فمن جعل هذا إلى مخلوق من الناس فقد اتخذه مع الله رباً يحكم ويأمر وينهى، ويحلل ويحرم، فلهذا عدي بن حاتم لما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١] قال: إنهم لم يعبدوهم، يعني: النصارى، فقال: (بلى، ألم يحللوا لهم الحرام فيتبعوهم على ذلك، ويحرموا لهم الحلال فيتبعوهم على ذلك؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم) فليست العبادة تكون فقط بالسجود والركوع والاستغاثة بهم، ودعوتهم لتفريج الكروب وما أشبه ذلك، بل أي نوع من أنواع العبادة إذا صرف إلى مخلوق من الناس صار معبوداً له وصار رباً له.

كذلك الذي يتبع عالماً لأنه قال ما يهواه، أو لأنه وافق طائفته التي ينتمي إليها قال: يكون هذا مثل عابد الدينار والدرهم، ومثل الذي يجاهد في سبيل الله في الظاهر أو يتصدق أو يؤدي أعمالاً في ظاهرها خالصة، ولكنه يريد نفعاً معيناً، إن حصل له ذلك النفع استمر في عمله وإلا نكص وفشل وترك العمل، وهو يشير بهذا إلى حديث أبي هريرة الذي في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) ثم ذكر رجلاً آخر يكون مقابلاً تماماً لمن عبد الدينار والدرهم الذي إن أعطي رضي، وإن منع سخط، إذا أعطي ما أراد من الدرهم والدينار والخميصة والخميلة رضي واستمر في عمله، أما إذا منع ذلك فإنه يسخط ويترك العمل، فهذا معناه أنه يعمل للدينار والدرهم، ويعمل للباسه ولمفروشه، ولما ينتفع به دنيا، فيكون بذلك عابداً له وإن لم يسجد له ويدعوه ويركع له، هل يوجد أحد عاقل يسجد للدينار والدرهم؟! لا، وإنما قصد بذلك أنه يعمل من أجله؛ لأن المسلم يجب أن يكون عمله لله وحده، يرجو به ثواب الله جل وعلا، ويخاف لو لم يعمل أن يعاقبه الله جل وعلا والذي يقابل هذا هو ما ذكره في آخر الحديث، قال: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن شفع لم يشفع له، وإن أذن لم يؤذن له)، يعني: أنه لم يبالِ عرفه الناس أم لم يعرفوه، بل يحب أنهم لا يعرفونه؛ ولهذا لو شفع عندهم ما شفعوا له، ولو استأذن على الكبراء والأمراء لا يأذنون له؛ لأنه غير معروف، وليس له قيمة، فهو يعمل لله جل وعلا، وهكذا كل من كان قصده وجه الله لا يلتفت إلى رضا الناس ولا سخطهم، ولا يبالي بهم، فعند ذلك لا يعرفونه.

وقوله: (إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة) يعني: أنه أي مكان وضع فيه أدى العمل الذي أنيط به كما ينبغي ولا يبالي؛ لأن قصده وجه الله، والفوز برضاه، بخلاف الأول تماماً، وبضدها تتبين الأشياء.

لهذا يأتي في القرآن ذكر أهل الجنة وصفاتهم، ثم بعد ذلك يأتي ذكر أهل النار وصفاتهم، أو يأتي -مثلاً- ذكر صفات أهل النار وأعمالهم وجزائهم، ثم يأتي بعد ذلك ذكر أهل الجنة وصفاتهم وجزائهم، فمثلاً: يذكر الله جل وعلا أنه إذا جمع العباد بعد النفخ في الصور أنهم ينقسمون إلى قسمين: كفار يؤتى بهم، ويقررون بأعمالهم، فيقرون ويعترفون، ثم يساقون إلى جهنم، ويعترفون أنهم يستحقونها، فيقال لهم: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:٧١].

والفريق الثاني: الذين اتقوا ربهم يساقون إلى الجنة زمراً، فإذا جاءوها استقبلتهم الملائكة فيها، وصاروا يدخلون عليهم من كل باب يسلمون عليهم ويقولون لهم: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:٢٤] هذا جزاؤكم بما صبرتم.

ثم ذكر بعد هذا أن الله جل وعلا قضى بين الخلق عموماً بالحق، حتى الملائكة: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:٧٥] هذا هو آخر شيء، قضي بين الفجار وبين المتقين وبين الملائكة (وقيل) هذا يدل على أن الخلق كلهم قالوا هذا القول: الحمد لله رب العالمين على قضاء الله وحكمه، حتى أهل النار يحمدون الله جل وعلا على ذلك؛ لأن هذا هو مكانهم الذي يستحقونه ولا يستحقون غيره، والله هو أحكم وأعدل الحاكمين، فالذي يعبد الدنيا، ويكون عمله لها سوف يلقى جزاءه، والدنيا ستذهب كلها ومن عليها، فيصبح قد خسر العمل، وأصبح عمله حسرات عليه.