للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصلاة المفروضة خمس وما عداها سنة وتطوع]

هذا متفق عليه بين أهل العلم، فدل هذا على أن هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر، فلا يتأتى على ذلك قول من يقول: إن فرضية الوتر وغيره صارت بعد قوله لـ معاذ.

لا يتأتى هذا، وهذا يشكل عليه ما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق على كل مسلم)، أو نحو ذلك، وقال (أوتروا -أهل القرآن- فإن الله وتر يحب الوتر) وقال في حديث يروى عنه صلى الله عليه وسلم: (لا تتركوا ركعتين قبل الفجر وإن طلبتكم الخيل)، وهذا الأمر قال كثير من العلماء: إنه يدل على الوجوب.

والجواب أن هذا أمر دل على أنها سنة مؤكدة، وقد يعبر عن السنة المؤكدة بالوجوب، كما قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، وقد علم أنه ليس حتماً وفرضاً، وإنما هو سنة؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا هذا وعملوا به، فقد ثبت أن عثمان رضي الله عنه لم يغتسل يوم الجمعة، وجاء وعمر يخطب فأنكر عمر عليه، وقال: أنتم قوم يقتدى بكم فلماذا لا تتقدمون.

فأخبره أنه كان في شغل، وأنه ما زاد على أن توضأ، فقال: وهذه.

وجاء في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، فهذا أيضاً يدل على أن الغسل ليس بواجب، وهكذا الكلام في الوتر وفي ركعتي الفجر وغيرها مما جاء من الأحاديث، وكلها ترغيب في الصلوات.

أما قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:١ - ٤]، وكذلك في آخر السورة، والعفو عن كونهم لا يقومون أكثر الليل، وكذلك قوله جل وعلا: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:٧٩] فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (نَافِلَةً لَكَ) يعني: ليست على أمتك.

ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان يصلي ويجتهد، وفي آخر عمره صلى التراويح جماعة ليلتين أو ثلاث، وفي اليوم الثالث امتلأ المسجد وذهب الناس إليه فلم يخرج عليهم، واليوم الرابع لم يخرج عليهم، حتى صاروا يتكلمون ويتنحنحون، وربما حصبوا الباب، ثم قال لهم بعد ذلك: (لقد علمت مجيئكم ومكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم)، فدل هذا أنها ليست فرضاً، بل هي سنة، وهكذا صلاة الاستسقاء، وصلاة العيدين، وصلاة الكسوف، كلها ليست واجبة بنص هذا الحديث، وأنه لا يجب على المسلم إلا خمس صلوات في اليوم والليلة، فالكسوف، والعيدان والاستسقاء وصلوات التطوع كلها ليست واجبة، وإنما هي سنة إذا فعلها الإنسان أجر عليها، وإن لم يفعلها فليس عليه إثم، غير أنه ينبغي للإنسان أن لا يزهد في الخير، وينبغي عليه أن يرغب فيما عند الله؛ لأن الجنة درجاتها تقتسم بالأعمال الصالحة، ولا ينبغي للإنسان أن يرضى بالدون، وينبغي له أن يكون له نصيب من التطوع، من الذكر، ومن القراءة، ومن الصلاة، ومن الصوم، ومن الحج، وهكذا، هذا أمر.

الأمر الثاني: أنه جاء في بعض الأحاديث أن الإنسان أول ما يحاسب عليه صلاته، فإن كانت كاملة فقد أفلح، وإن كانت ناقصة فإنه يقال: انظروا هل له من تطوع فتكمل به صلاته.

إذاً كان الأمر هكذا، فينبغي للإنسان أن يكثر من التطوع، ولا سيما نحن، فلسنا كالصحابة ومن بعدهم من السلف، إذا قام أحدهم إلى الصلاة أصبح كأنه بين يدي الله جل وعلا يشاهده ويخاطبه، أما نحن فتجد الجسم في المسجد في الصفوف، والقلب تجده سارحاً في مكان آخر، يفكر في أمور أخرى، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يكتب للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها) الشيء الذي يعقله، فقد يكتب للإنسان كل صلاته، وقد يكتب له نصفها، وقد يكتب له ثلثها، وقد يكتب ربعها، وقد لا يكتب له إلا عشرها، وقد يخرج من الصلاة ما عقل منها شيئاً فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها فتقول: (ضيعك الله كما ضيعتني).

أما إذا أداها بخشوع وحضور قلب وطمأنينة فإنها تصعد ولها نور، وتقول: (حفظك الله كما حفظتني).

فنحن في الواقع بحاجة إلى أن نرقع صلاتنا؛ لأنها مخرقة بل ممزقة صلواتنا تكون ممزقة، بكثرة التفكير في أمور الدنيا، وبكثرة كون القلب يسرح في أماكن أخرى، وربما إذا انتهى الإمام لا ندري ماذا قرأ، ولا ندري أي سورة وأي آية، وهذه مشكلة، وربما الإنسان لا يدري صلى ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، فهو سارح، وإذا كان الأمر هكذا فنحن بحاجة إلى أن نكمل صلاتنا.

وفضل من الله جل وعلا كونه يقبل منا أن تجبر الفريضة بالتطوع، فضل يتفضل به على من يشاء، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما يروى عنه: (الصلاة خير موضوع، فازدد منها ما شئت)، ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يكثرون من الصلاة، مع ما ذكرنا من حضور قلوبهم في الصلاة وخشوعهم، حتى إن أحدهم يضرب بالرماح وتسيل الدماء منه وهو في صلاته لا يقطعها، ولما عوتب على ذلك قال: كنت في آيات كرهت أن أقطعها.

أأقطع المعاني المترتب بعضها على بعض؟ ثم قال: (والله لولا أني خشيت أن يؤتى المسلمون من قبلي ما أيقظتك)، وهذا في رجلين جعلهما الرسول صلى الله عليه وسلم حارسين وهم في غزوة من الغزوات، فوكل الحراسة إلى رجلين، فقال أحدهما للآخر: كوننا نبقى مستيقظين ليس له فائدة، اختر إن شئت أن تنام أول الليل أو آخر الليل.

فقال لصاحبه: أنام الآن وأقوم آخر الليل.

فصار صاحبه يصلي وهو ينظر، فجاء أحد الأعداء فرأى شخصه فصوب إليه السهم فضربه فلم يتحرك، ثم صوب إليه السهم الثاني وضربه، فصارت الدماء تسيل، ثم الثالث، عند ذلك خاف أن يموت فأيقظ صاحبه، فلما استيقظ صاحبه قال: سبحان الله! ما الذي حملك على هذا؟ لماذا لم تيقظني من أول الأمر؟ فقال: والله لولا أني خشيت أن يؤتى المسلمون من قبلي ما أيقظتك؛ لأنني كنت في آيات كرهت أن أقطعها أي: قبل إكمالها.

فالمقصود أن هذه حالتهم ولهذا: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر- أي: أصابه أمر شديد- فزع إلى الصلاة)، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:١٥٣].

فالصلاة يستعان بها؛ لأنها صلة بين العبد وربه، إذا وقف الإنسان متجهاً إلى ربه ورفع يديه قائلاً: (الله أكبر) يجب أن يعلم ما يقول، وأنه ليس هناك شيء أكبر من الله، لا مال ولا أولاد، ولا مناصب، ولا منافع، ولا أي شيء في الكون، ويحب أن يقبل على الله ويشتغل بالله، ولا يلتفت بقلبه يميناً ولا شمالاً، وقد جاء في الحديث: (أن الله ينصب وجهه في وجه المصلي ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض الله عنه)، فأي مسلم يود أن الله يعرض عنه؟! وجاء في حديث آخر أن الإنسان إذا التفت في صلاته أعرض الله عنه، وقال: (أإلى خير مني) يعني: تلتفت إلى خير مني؟! تعالى الله وتقدس.

والالتفات ينقسم إلى قسمين: التفات أصغر والتفات أكبر، فالالتفات الأصغر هو التفات البدن بالرقبة أو بالبدن، وقد علم من أقوال العلماء أن الالتفات عن القبلة بالجملة بالجسد كله يبطل الصلاة؛ لأن الله أمرنا بالتوجه إلى الكعبة فقال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٤٤]، وهذا يدل على الوجوب، فنستقبله دائماً في الصلاة، والالتفات هاهنا اختلاس من الشيطان، وكون الإنسان يلتفت برقبته أو ببدنه عن القبلة فهذا نقول: إنه التفات أصغر.

أما الالتفات الأكبر فهو الالتفات بالقلب، وكون القلب يلتفت إلى غير الله ويسرح ويمرح ويشتغل بالأمور الأخرى.

إذاً: فالصلاة من أعظم أركان الإسلام، ولهذا بدأ بها بعد الشهادتين، فقال: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة).